أصدر ساسي سالم الحاج كتاباً بعنوان “نقد الخطاب الاستشراقي: الظاهرة الاستشراقية وأثرها في الدراسات الإسلامية” (دار المدار الإسلامي، بنغازي، 2002)، وضمّنه الحديث عن الاستشراق في مختلف مجالات العلوم الإسلامية؛ وقد ناقش الحاج مسألةَ ما إذا كان الاستشراق ظاهرة أو عِلْماً. وكتب أنّ من الصعب أن نعدَّ الاستشراق عِلْماً، ذلك أنّ لكلِّ عِلْم أصوله وقواعده ومناهجه، بينما نجد أنّ الاستشراق اهتم بالعلوم الإسلامية المختلفة، ابتداءً بالعلوم القرآنية من تفسير وتجويد وقراءات، وعلوم الفقه، وعلوم الحديث، وعلوم اللغة العربية، والعلوم الاجتماعية، التي تتعلّق بالعالم الإسلامي وبالمسلمين. ومع ذلك، فإنّه من الممكن أن يستخدم المستشرقُ المنهجَ العِلْميّ في طرحه القضايا التي تتعلّق بالعلوم الإسلامية وفقاً للعِلْم الذي يبحثه.
ما يهمّنا في الأمّتَين العربية والإسلامية ليس الدخول ضمن العقلية السجالية في الإشارة إلى أنّ الاستشراق من ناحية أنّه عِلْمٌ أم ظاهرة؛ ففي سياق قناعتنا المنهجية أنّ الظاهرة غالباً ما تسبق المفهوم، وأنّ الظواهر هي مادّة العِلْم ومجاله؛ ولكن ما يجب علينا أنّ نحدّده في مفاد ذلك السؤال؛ في أيّ أرض نقف؟ … نعرف ونوقن أنّ الغرب يدرسنا في جميع المجالات، حتّى توصّل إلى معرفة الجزئيات، وجزئيات الجزئيات، كما قال أبو بكر باقادر، لذلك علينا أن نعمل في أنّ نعرف أنفسنا أولاً، ونمثّل أنفسنا أمام أنفسنا ثانياً، ثم ننتقل في النهاية إلى تمثيل أنفسنا أمام الآخرين، على ما يُؤكّد أكرم ضياء العمري. لقد كتب الحبيب الجنحاني مرّةً “الغرب يكتب المتن ونحن نكتب الهامش”، فهل لنا أن نُؤسّس استراتيجيةً للبحث والوعي والسعي، نقدّم فيها متناً بمتن؟
تقوم الإبستمولوجيا المُرّكبةُ على قاعدةٍ مهمّةٍ تتمثّل في أنّ المدخل الأساس لتغيير العالم هو تغيير أدوات فهم العالم
من الغريب حقّاً أنّ الهوس الغربي في موت الظواهر والمجالات؛ أو في إصدار طبعات جديدة؛ أو الغرام بحديث النهايات؛ أو غموض الجديد الذي يُبشِّر به مثل الـ”ما بعديات”، التي أطلقها في مجالات معرفية شتّى. نستطيع القول وبمزيد من الطمأنينة المعرفية والفكرية إنّ الخطاب الغربي لم يغادر عاداته تلك في الحديث عن المسألة الاستشراقية، فهو يطلق مقولات مثل موت ونهاية الاستشراق، كما يتحدّث عن الاستشراق المعاصر والاستشراق الجديد، أو ما بعد الاستشراق. تلك التسميات، التي تمثّل ولعاً غربياً وفق عقلية التجاوز المستمرّ، التي لا تستقرّ على حال؛ والاستغراق في ابتداع الموضات المعرفية واحدةً تلو الأخرى؛ وعلى الثقافات الأخرى أن تتلقَّف ذلك كلّ، فتُعقَد الندوات وتُترَجم الكتابات، ويضطر بعضهم لركوب الموجة ذاتها من الموضات الفكرية، حتّى يُكوِّن صورةً ذهنيةً أنّه من العصريين؛ فإذا ما فهم هؤلاء أو اقتربوا من فهم الظاهرة المستوردة معرفياً من الغرب، وأتاهم بأخرى، فواصلوا اللهاث في مسيرة اللحاق بالرَكب الحضاري والمعرفي، وظلّت قضاياهم في النهوض من غير دراسات مُستحقَّة، وظلّت الموضات الفكرية موضع إلهاء، تزيغ الانتباه عن الغرض الأساس والمقصود.
في مقالنا السابق، الذي اتخذنا له عنوان “الاستغراب الواعي والاستشراق الباغي” (“العربي الجديد”، 20/9/2024)، كان من هدفنا أن نخرج من حالة السجال وحالة الانبهار التي تفرضها سياقات “الغالب والمغلوب” إلى سياقات تُحدّد سؤال النهوض والمسارات القويمة للإجابة عنه، ومن ناحية ثانيةٍ، أن نخرج من قمقم “المفاهيم الدفاعية” إلى “الحالة البنائية”، الواعية والدافعة لاستئناف عمليات النهوض والإحياء والإصلاح ومتطلّبات التغيير.
“التراجع إلى مواقع الفكر الدفاعي أو الأدب الدفاعي، كما يحبّ أن يسمّيه بعضهم، قد يكون مرحلةً طبيعيةً تمرّ بها الأمّة في معركة تحقيق الذات حضارياً، وانتزاع الاعتراف بها، وتحديد وجودها، والدلالة على أنّ ما تمتلكه من المقوّمات لا يقلّ عمّا تمتلكه الأمم المُتقدّمة في المجال الإنساني”، إلّا أنّ الغرب الاستشراقي “يقذف الأمّة كلّ حين بمجموعة من المشكلات والقضايا، قد لا تعاني منها أصلاً، يحتجز نشاطها، ويستوعب فاعليتها، ويستهلك جهدها، ويتحكّم بمساراتها العقلية ونشاطاتها الثقافية، أي أنّه يسيطر على ساحة الفاعلية، ويتحكّم بعطائها مسبقاً؛ لكنّ المشكلة في الفكر الدفاعي، تكمن في هـذه الحرب الحضارية القائمة على الاستنزاف المستمرّ للطاقات الفكرية، والاستهلاك الدائم للنشاطات الذهنية لمجموع الأمّة فلا يترك لها من الوقت ما هـو كافٍ للنظر في مشكلاتها الحقيقية والقدرة على تصنيفها، ومن ثمّ صرف الجهود إلى معالجتها، هذه القضايا المفتعلة والأفكار المصطنعة، التي أنتجت في مصانع الاستشراق، تطرحها مراكزُ متخصّصة لصناعة الاهتمامات على العالم المتخلّف لإبقائه في الساحة الفكرية نفسها، يراوح فيها ولا يستطيع تجاوزها”. هكذا يُؤكّد عمر عبيد حسنة. الفكر الدفاعي مراوحةٌ في المكان وتبديداً للطاقة الذهنية.
على الجماعة الثقافية والمعرفية والعِلْمية والبحثية أن تكشف تحيّزات الغرب وأن تبني النماذج المعرفية البديلة
ربّما هذه المُقدّمة المُركّبة، وهي تستلهم مقولات فيلسوف الاجتماع الغربي الفرنسي إدغار موران حول الفكر المُركَّب والتفكير بالمستقبل، ضمن صياغة الأسئلة الصحيحة. المقصد الأخير من هذا الكلام أنّه من الضروري أن نبني مواقفَ استراتيجيةً رصينةً من كثير من أمورنا، وفقاً لما قاله موران، إنّ منظومة التبسيط عن طريق تنظيمه واختزاله في كيانات مغلقة وثابتة وعالمية لا تعرف النقائص أو الاختلافات أو الخصوصيات أو التحوّلات، هذه فكرة غير صائبة؛ فأكبر خطر يواجهنا عند التبسيط هو الاختزال، أي محاولة فهم العالم (ذلك المجموع الهائل من المُرّكبات الدينامية والمفتوحة والمتحولة) كما تقدمه لنا إبستيمولوجيا الغرب في القرن التاسع عشر، أو المعرفة التقليدية. بينما نجد أنّ الإبستمولوجيا المُرّكبة تقوم على قاعدة مهمّة تتمثّل في أنّ المدخل الأساس لتغيير العالم هو تغيير أدوات فهم العالم.
فحينما يتحدّث موران عن المنظومة المفقودة والعِلْم الواعي، فهو واعٍ بأصول هذا العالم المتنوّع المختلف مهما قلنا إنّ تلك يمكن أن تكون خصوصيةً ثقافيةً أو تعدّديةً ثقافيةً أو نسبيةً ثقافيةً، إذ إنّ جميعها تعبيرات كثيراً ما نجدها قد شاعت في كتب عِلْم الاجتماع على وجه الخصوص. إنّ الأمر هنا يرتبط بضرورة أن ننفصل عمّا يُسمّى “مقولات العقل الأعمى”، وهو الذي يتّسم برؤية أحادية في توصيف المشكلة وفي حلّها. وإنّ البصر بهذا إنّما يحدث بالوعي بأنّ هذه النظرة الأحادية في طبيعة دراسة الظاهرة ووصفها، وفي البحث عن الحلّ لإشكالياتها، هو الذي يشوّه المعرفةَ، ويمسك الواقع، حتّى يُشكّله ضمن تنميطه وفق رؤاه.
ليس السؤال بشأن الاستشراق بعيداً أبداً عن هذه الرؤية التي تُقدّم لنا إشارات وتنبيهات يجب أن نضعها في الحسبان حينما نعيد طرح سؤال الاستشراق ضمن منظومة أسئلة النهوض؛ إنّ سؤال الاستشراق الذي وَلَّد أسئلةً فرعيةً تلتحق به، لم يكن بعيداً من سؤال النهوض وإمكاناته، وذلك أنّ حضور الغرب في الشرق لم يعد طيلة تاريخ العلاقة بين الشرق والغرب مُجرَّد علاقة عابرة، بل إنّ إشكال التبعية المختلفة، وأطواق الهيمنة المتراكمة، وطبيعة المنطقة الجيوسياسية، سيكون من أكثر المواقع والتحدّيات والعقبات أهمّيةً، تواجه مسار النهوض الذي سينهض عليه، إن عاجلاً أو آجلاً. إنّها مسألةٌ تتعلّق بالوعي المعرفي واللياقة المنهجية، ومن المهمّ أن نُؤكّد أنّ الجماعة الثقافية والمعرفية والعِلْمية والبحثية عليها أن تنهض بأدوارها المعرفية في كشف تحيّزات الغرب وبناء النماذج المعرفية البديلة، فضلاً عن نقد النماذج والمقولات المعرفية والحضارية، التي أنتجها ضمن مركزيّته الحضارية، ومن ثمّ ربّما تكون صياغة السؤال المُركَّب. على هذا النحو الصحيح نصف الطريق المُؤدّي إلى الإجابة الحقيقية الدقيقة والاستجابة الواعية العميقة. وللمسألة بقيّة من تبيان وبيان.