لم تنته الظاهرة الاستشراقية، بل اتخذت أوعيةً وأشكالاً أخرى تحت مسمَّى “الاستشراق الجديد”، ومن المهم فحص مقولات مثل “نهاية الاستشراق” أو “موت الاستشراق”، أو أن ذلك نهايات لحِقَبٍ مرَّت. وفي الحديث عن “ما بعد الاستشراق” كما أشار الكاتب من قبل، فإن أذرع الحضارة الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتّحدة، لا تزال تعتمد هذه الأدوات المعرفية في السياقات الضامنة لحالة التبعيّة والتجزئة، التي تشكّل قابلياتٍ للهيمنة والسيطرة على المنطقة بشكل مباشر أو غير مباشر، وضمن حالة التشكّل الكولونيالي ضمن أشكال جديدة، فإذا كان هدف الكولونيالية (الاستعمار) القديم “ابْقَ لتنهب”، فإنّ شأن الكولونيالي الجديد “ارحل لتبقى”. ويظلّ للاستشراق في ثوبه الجديد عمل تأسيسي يساهم فيه بإحكام القبضة الغربية.

من المهم في دراسة الظاهرة الاستشراقية، بين أنّها أداة معرفية للحضارة الغربية خاصّة في مراحلها الكولونيالية وتكريس معنى المركزية الغربية، والجهد العلمي المعرفي والبحثي؛ إذ مثّل الاستشراق جيشاً معرفياً للغزو الكولونيالي؛ والإسهام المعرفي للاستشراق كان على أهميته فعلاً جانبياً، ولكن ما نستطيع أن نؤكّده أنّ الظاهرة الاستشراقية قد مثّلت ما هو أكبر من تقديم مواقفَ وآراءٍ معرفيةٍ حول الشرق، خاصّة في ما يتعلّق بالدين الإسلامي باعتباره أكثر رافد للثقافة السائدة والغالبة أهمّيةً. قدمت الظاهرة الاستشراقية حزمة من النماذج المعرفية بمكوّناتها الخمسة:

الأول، رؤية للعالم والعوالم التي شكّلت موضع تركيزه واهتمامه، وهو أمر (وبشكل مُبكِّر) حدّد بوصلته ووجهته، وبدت هذه الرؤية مسكونةً بالغاية الكولونيالية في حِقَب زمنية متوالية ومتتالية، وقدّمت في هذا المقام رؤىً حاكمةً اتخذت من معاييرها للحضارة الغربية أساساً ومقياساً؛ “إنّ الخطاب الاستشراقي يمثّل جوهر الفكر الغربي؛ لا في رؤيته للآخر فحسب، بل في رؤيته لذاته أيضاَ؛ إذ بات من الجلي أنّ صورة الآخر التي صاغها مجمل الخطاب الاستشراقي (في تياره العام) قد تلوّنت بلون الضدّ والنقيض للذات الغربية التي (وحدها) جمعت الفضائل من وجهة نظر المركزية الغربية”.

يظلّ للاستشراق في ثوبه الجديد عمل تأسيسي يساهم فيه بإحكام القبضة الغربية

المكوّن الثاني، كان لهذه الرؤى الاستشراقية جهاز مفاهيمي وفكري خاصٌّ يغذَّى من خلال ممارستها البحثية. شكلّ هذا الجهاز المفاهيمي أكثر مدخل للاستشراق أهمّية، لقيامه بمهمّة مزدوجة؛ صناعة مفاهيمه الخاصّة، ما استدعى التركيز في قضايا فكرية وثقافية ومعرفية معيّنة، ومن جانب آخر حرص على تقديم أوسع نقد للمفاهيم الإسلامية والدينية، وتسريب ظواهر ارتبطت بصناعة هذا الجهاز المفاهيمي.

المكوّن الثالث يتعلق بالأطر النظرية والمنهجية، ومن المهم أن نؤكّد أنّ الصناعة الاستشراقية توفّرت لها إمكاناتٌ كبيرةٌ في البحث العلمي، واستطاعت أنّ توظّف أبنيةً تصوّريةً ومنهجيةً تبدو في ظاهرها مُحْكَمة، وانتشرت لدى قطاع كبير من المفكّرين، الذين تلقّوا تعليمهم ومعارفهم في الغرب، وبدا لهؤلاء أنّهم يمثلون قناةً اتصالية (هي الأكثر أهمّيةً) لتسويق هذه الأطر النظرية والمنهجية وترويجها، فقدَّمت أطراً تحليليةً لكثير من المجالات المعرفية المرتبطة بالدراسات الإسلامية.

https://d068fa2e54550802cb5c6f3f7dac40cd.safeframe.googlesyndication.com/safeframe/1-0-40/html/container.html

المكوّن الرابع، أنّ من أكثر المناطق التي انطلقت إليها الدراسات الاستشراقية قواعد التفسير، واعتماد تفسيرات بعينها دون غيرها، وكان من هذه القواعد اعتماد المعايير الغربية في تفسير الظواهر من ناحية، وإسقاطات غريبة عن البيئة مصدرها غربي، وهو أمر لم يقف عند حدود دوائر التفسير، بل تعدّاها إلى تشكيل الحياة الثقافية، وفرض مجموعة من القضايا والإشكالات والثنائيات المتصارعة، وهو أمر لا يزال يؤثّر في مجمل الحياة الثقافية والفكرية في بلادنا.

أمّا المكوّن الخامس فيتعلّق بالإشكالات الأجدر بالتناول كما يحدّدها الفكرُ الاستشراقي ونماذجُه المعرفية، بدا هذا السياق يحاول أن يُصنّع الحالة الثقافية، أو يصطنع قضاياً كانت محلّاً لسجالات داخلية وخارجية، وانشغل فيها العقل العربي والإسلامي، واخترقت حتّى سؤال النهوض والنهضة، فجعلته عند كثيرين في النُخَبة المثقّفة سؤالاً تابعاً لا نابعاً.

صرَّح إدوارد سعيد بأنّ الأساس الفكري الذي يقوم عليه كتاب “الاستشراق” هو “الارتباط الوثيق بين المعرفة وبين السلطة والقوّة”.

وفي باب الاستشراق والحالة النقدية له، فإنّ المناهج النقدية للاستشراق وأحكامه قد تنوّعت في أساليبها ومداخلها؛ ذلك أنّ الظاهرة الاستشراقية لم تشهد نقداً من جانب المفكّرين والمثقّفين من عرب ومسلمين فحسب، بل شهدت كذلك انتقاداً واسعاً من مدارسَ فكريةٍ غربية أو عربية في الغرب؛ في سياق مواجهتها للمركزية الغربية واستهدافها حالة التبعية والهيمنة. نصدّر هذا النقد بملاحظتين حول نقد الظاهرة الاستشراقية:

الأولى، يُعَدُّ إدوارد سعيد من أبرز النقّاد الذين عنوا بمفهوم “الخطاب الاستشراقي”، فوظّف (في دراسة الظاهرة الاستشراقية وعلاقاتها) بعض تقنيات النقد الثقافي، لا سيّما منظور ميشيل فوكو عن مفهوم الخطاب وعلاقته بالسلطات المتنوعة، في كشف الخطاب الاستشراقي الكامن في دراسات المستشرقين، واستكناه معالمه ومُنتَجه النهائي عن صورة الشرق، وما يتّصل به من علوم وفنون وتصوّرات، ولقد صرَّح إدوارد سعيد بأنّ الأساس الفكري الذي يقوم عليه كتاب “الاستشراق” هو “الارتباط الوثيق بين المعرفة وبين السلطة والقوّة”.

وقيمة نقد إدوارد سعيد أنّه يضع الاستشراق في موقف مُحرِجٍ قبالة مؤيّديه، محمّلاً إياهم المسؤولية الأخلاقية عن تصويب المسار ومراجعة المقولات التي لطالما عُومِلت مسلَّماتٍ، بما فيها مقولة المفاصلة بين الشرق والغرب، التي اعتبرها سعيد نابعةً من حدود مُتخيَّلة للشرق والغرب (صاغها الخيالُ الاستشراقي) أكثر من أنّها نابعةٌ من حدود جغرافية واقعية. وفي الوقت ذاته ينفي سعيد أن يكون قصده من هذا التفكيك النقدي تصوير الاستشراق سلسلةً من الأكاذيب والأساطير، أو سلب الاستشراق إنجازاته التي قدّمها في توصيف الآخر (الشرق وفقاً للمفاصلة الاستشراقية).

قيمة نقد إدوارد سعيد أنّه يضع الاستشراق مُحرَجاً قبالة مؤيّديه، محمّلاً إياهم المسؤولية الأخلاقية عن مراجعة مقولات عُومِلت مسلَّماتٍ

أمّا الملاحظة الثانية، فمن المهم الوقوف عند نقد وائل حلّاق في كتابه “قصور الاستشراق: منهج في نقد العلم الحداثي” (نقله إلى العربية عمر عثمان، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بيروت، 2019)، وهو بحث مهم حديث، قدّم فيه حلّاق محاولة لتوصيف الظاهرة الاستشراقية من زاوية غير التي اعتاد نقّاد الاستشراق الولوج إلى درسه من خلالها، فاستعار حلّاق عدة منظورات تفسيرية لتقديم تحليل أعمق لجوهر الظاهرة الاستشراقية وتشابكاتها البنيوية، التي تضعها في قلب مشروع الحداثة الغربية باعتبار الاستشراق أداةً حداثيةً لإنتاج الشرق، لا محض تمثيلات تصويرية.

ويبدو، من النظر في هذا الكتاب، أنّ صاحبه انطلق من نقد إدوارد سعيد؛ من جهة انّ إدوارد سعيد نقد الاستشراق بأدوات من داخل البنية المعرفية للحداثة، وبقي نقده في هذا الإطار، فصار إنجازه الوحيد هو كشف العلاقة بين الاستشراق والسلطة الكولونيالية؛ تأثّراً بميشيل فوكو بالأساس، بينما لم يمتدّ إلى كشف موقع الاستشراق من بنية الحداثة ذاتها، كما لم يلتفت سعيد إلى حقيقة أنّ الأدوات التي أنتجت الحداثة لا يمكن استخدامها في إعادة بناء وتشكيل ما استخدمت في إنتاجه، بل أقصى ما ينتظر من هذه الأدوات هو تصحيح بعض الأخطاء، وحلّ بعض المشكلات، من دون إحداث خلخلة جوهرية في بنية الشيء المنقود، بينما حاول حلّاق كسر الإطار النقدي الذي اعتاد نقَّاد الاستشراق قبله على الولوج إلى الدرس الاستشراقي من خلاله، إيمانا منه بأنّ إعادة بناء الاستشراق تحتاج كسر هذا الإطار، والتوصّل إلى نقد العلم الحداثي (وإعادة بنائه) بأدوات من خارج المنظومة الحداثية تتمتع (إلى جانب قوّة المنظور النقدي) برسوخ الجانب القِيَمي. ورشّح حلّاق الإفادة في هذا الصدد من الرصيد المهمل لنظريات المعرفة والأخلاق في الإسلام، وأولى جهود الفيلسوف طه عبد الرحمن عنايةً خاصّةً.

من المهم كذلك أن نؤكّد أنّ نقد الظاهرة الاستشراقية أنتج كتابات كثيرة، ولعل هذا الأمر (وحتّى الكتابات ما بعد الكولونيالية) يستحق التوقف عنده، ضمن تجلية الموقف من الاستشراق وسؤاله المهم.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *