أعتذر لكلّ من سيقرأ هذا المقال، لأنني أقحمت نفسي في مساحات سؤال الاستشراق، الذي تعرّفنا إلى أهميته، وتحديد منهج النظر، وما ارتبط به من أسئلة فرعية أو جزئية، ولكن لماذا كان هذا الإقحام مبرّراً لديّ، ذلك لأنه خبرة تعامل معرفي ومنهجي مباشر مع مسألة وسؤال الاستشراق، ذلك أن رسالتي للماجستير في حقل الفكر السياسي الإسلامي كانت عن مدرسة المعتزلة، وقد اخترت المجال، إلّا أن تسمية موضوع الرسالة كان شراكةً بيني وبين أستاذي حامد ربيع، فكان نصيبي من العنوان أن حدّدت منطقة الدراسة وموضوعها “الجانب السياسي لمفهوم الاختيار لدى المعتزلة”، أمّا نصيب أستاذي فكان في العنوان الفرعي “بين الإدراك الذاتي والفهم الاستشراقي”.

وضعني هذا العنوان (الملحق) في مهمّة، أقول، وبحق، إنها شكّلت لي امتحاناً وتحدّياً معرفياً حول مسألة الفهم الاستشراقي، وهو ما جعلني أخصّص ثلث وقتي في القراءة حول الاستشراق، وأمدّني أستاذي حينئذ بكتابات إمّا بالإرشاد أو الإعارة، وفي هذا الوقت لم تكن موجة نقد الاستشراق إلّا كتابات قليلة، أو على الأقلّ لم تكن من الشيوع حتى أتدارسها بالمتابعة والتحليل. وفي هذا المقام، فإن خريطة تعامل مع الاستشراق فرضت عليّ اهتماماً مبكّراً بالمسألة الاستشراقية، وبكتابات ارتبطت بمستشرقين يشار إليهم بالبنان، لتنوّع كتاباتهم في حقول معرفية مختلفة ترتبط بالحضارة الإسلامية، وما تمخض عنها، وكذلك باعتبار أن هؤلاء مثّلوا أيضاً اتجاهات مختلفة داخل المدارس والاتجاهات الاستشراقية، وملكوا تأثيراً مهمّا في المسيرة الاستشراقية وريادة توجّهاتها، ويمكن الوقوف على خريطة مدارس الاستشراق وتوجّهاته.

مدرسة آباء الكنيسة والقساوسة، التي سيطرت على مسار الاستشراق في البدايات، كان لها تاريخ طويل جمع بين دراسة الإسلام والمسلمين، وكذا التبشير، والسند للظاهرة الكولونيالية المرتبطة بالاستشراق نشأةً وسيرورةً، وهي التي أفرزت منظومةً من التصوّرات السلبية حول الخبرة الإسلامية، وبدا لهم أن يتقصّدوا ويتقصّوا الحوادث والمشاهد والشواهد، لما أسمّيه بعد ذلك “الطعن في الإسلام وخبرة المسلمين”، وكان في رأس هؤلاء من قساوسة صمويل زويمر وهنري لامانس، وغيرهما، وقد لمزوا المعرفة الإسلامية ورموها بكلّ نقيصة، وتابعهم كثير من المستشرقين يتداولون مطاعنهم وأحكامهم.

مدرسة هاملتون جيب وجوزيف شاخت اهتمّت بدراسات الشريعة ومجالاتها المختلفة، ومنها السياسي، ولعلّ كتابات تراث الإسلام بأجزائه الثلاثة، التي شكّلت مصدراً شبه موسوعي للتعرّف إلى خريطة التراث الإسلامي وتعدّد مناحيه. ومنها مدرسة الفكر السياسي الإسلامي، وهي المدرسة التي اهتمّت بالتراث والفكر الإسلاميين على وجه الخصوص في المجال السياسي، وكان في رأسها لامبتون والمستشرق مونتغمري وات في كتابه “الفكر السياسي الإسلامي”، والتي ارتبطت بمدرسة التحقيق للنصوص الإسلامية خاصّة السياسية فيها، وهي مدرسة مهمّة احترفت التحقيق للنصوص، واستفادت منها المدرسة العربية الإسلامية في مناهج التحقيق وضبط النصوص مثل “مسألة العمل مع السلطان”، من تأليف السيد المرتضى، وبتحقيق المستشرق ولفرد مادلونج. وواصل أستاذنا رضوان السيد هذا الاهتمام بتحقيقاته المتعدّدة حول كتابات سياسية تراثية.

وكذا مدرسة العلاقة بين الفكر الإسلامي والحضارة الغربية، وقد كان لعبد الرحمن بدوي فضل كبير في التعريف بها، وكذلك مونتغمري وات السابقة الإشارة إليه، وتوماس أرنولد. وقد أشير إلى بعضهم في عداد مدرسة الاستشراق، ولكنّهم كانوا من أصول عربية وفي رأسهم ألبرت حوراني، الذي قدّم عملاً تشريحياً مهماً للفكر العربي، وقد سبق لنا التوقّف على تأليفه في أحد مقالاتنا، وشكلّ، ومن لفّ لفّه، في تأليفاتهم أسلوباً متميّزاً مختلفاً؛ وكذلك مجيد خدوري ومحمد أركون.

عبد الرحمن بدوي
عبد الرحمن بدوي

لا يُنكر لدى بعض المستشرقين إسهامهم في المسألة المعرفية من باب المنهج، من دون أن يعفينا ذلك من ضرورة النظر النقدي لهذه المناهج وإعمالها ومجالات توظيفها

مدرسة برنارد لويس، التي توقّفت كتاباتها ومفرداتها ومناهجها على وجه الخصوص على مستشرق ذاع صيته، وشكّل بحاله وبتأليفاته “مرشداً عاماً” لمدرسة الاستشراق، وقد طال عمره، وتقلّب في التجنّس من البريطانية إلى الأميركية؛ وكذلك في المراكز البحثية الاستشراقية، وأسس وأدار مركزاً بحثياً، كما تأسّست مراكز تسمَّى باسمه في حياته، فقد تخطّى عمره قرناً من الزمان، ولم يكن مستشرقاً اعتيادياً، بل كان بحقّ مجموعةً من المؤسّسات ومصدر كثير من الاستشارات، تقاطع مع كثير من القضايا السياسية والاتجاهات الفكرية، وانخرط في بناء الاستراتيجيات للتعامل مع عالم المسلمين والعرب، بل إنه أثّر في مسيرة الاستشراق حتى دشنّ ما سُمي “الاستشراق الجديد”، ووقف يعيد تشكيل الظاهرة الاستشراقية.

وقامت مدرسة أخرى قدّمت جهوداً في عالم المفاهيم، التي لا تخلو من انتقاد لبعض أفكارهم، سواء ما تعلّق فيها بالمنهج، أو ما ارتبط بها من تعميمات كان لها من التأثير الكبير، ليس فقط داخل المدرسة الاستشراقية، بل والمدرسة العربية، حينما التقطت بعض أفكار هذه المدرسة وصارت تردّدها، خاصّة المدرستين القومية والعلمانية في الفكر العربي، وفي مقدّمة هؤلاء يقع فرانتز روزنتال، الذي اهتمّ بدراسة التاريخ، كما اهتمّ بمساحة العمل المفاهيمي، وكذلك مايكل كوك، الذي قام بدراسة مفهوم “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر”. وكذلك مجيد خدوري في دراسته عن العدل. ومثّل بعض المتأخرين من المستشرق رودلف بيترز في كتابه الذي ترجم إلى العربية “الإسلام والاستعمار” في جامعة أمستردام، وهو ما اهتممت به كثيراً في باب تقاطعت فيه المفاهيم والمؤسسات، وعالم الحركة والخبرة الإسلامية التاريخية والمعاصرة، فمثّل منهجاً ممتدّاً ومركّباً، أظنّ أنه مفيد، حتى بعض التحليلات التي امتلأت بأخطاء فادحة في التحليل والتعميم.

بينما كانت هناك أقلام منصفة أفاضت وأضافت كثيراً في التعامل مع الخبرة الإسلامية، مفاهيمياً وممارسات، مثل كتابات مارسيل بوزار حول “إنسانية الإسلام”؛ “ومارشال هودجسون” في موسوعته مغامرة الإسلام؛ وجون فول في كتاباته المتعددة. وفي ذلك المسار، من المهمّ في هذا المقام أن نشير إلى حقيقة المدرسة المعاصرة، التي جمعت بين دراسة العلوم الاجتماعية، ودراسات المناطق، والدراسات السياسية، من مثل فرانسوا بورجا، وكذا تيموثي ميتشل، وغيرهما، التي مثّلت بحقّ كتاباتٍ تحاول دراسة الظاهرة الإسلامية وعلاقات السلطة الكامنة في الخبرة التاريخية، وغير ذلك من توجّهات بحثية جديدة ومهمّة.

وضع الظاهرة الاستشراقية تحت المجهر سيفيد، ليس في تحليلها أو نقدها فقط، ولكن أيضاً في تصوّر أدوار المسألة الاستشراقية، وسؤالها

خبرات وخرائط من التوجهات الاستشراقية تراكمت ضمن هذه الخبرة الذاتية مع المسألة الاستشراقية. إن هذا التنوع في المداخل المختلفة والظواهر المتنوعة والدراسات التي نتجت عنها، إنّما تشير إلى هذا المعنى المهمّ في الدراسات الاستشراقية، وما عُدَّ منها أو يقترب من موضوعاتها، ليؤكّد لنا أن الظاهرة الاستشراقية، ليست ظاهرةً مصمتةً أو كتلةً واحدةً تستحق وصفاً عاماً، إلا باعتبار القاعدة “الأمر بما غلب عليه”، فمن الاستشراق وبعض توجهاته ومدارسه ومداخله ما أضاف في التناول المنهجي، ووصف وأنصف في كثير ممّا كتب، وفيه مدارس ظلّت تمثّل غطاءً معرفياً أو أداةً معرفيةً للحضارة الغربية، خاصّةً في مراحلها الكولونيالية، وتكريس معاني المركزية الغربية، فإن وضع الظاهرة الاستشراقية تحت المجهر سيفيد، ليس في تحليلها أو نقدها فقط، ولكن أيضاً في تصوّر أدوار المسألة الاستشراقية، وسؤالها.

من المهم أن يُشار في هذا المقام إلى أن هذا التنوّع كذلك في المجالات والعمل والأداء قد جمع في التأليف بين القضايا والمناهج، ومن المهم في دراسة الاستشراق وتاريخه، وكذلك في دراسة الخبرات، ألا نقف عند المسائل فحسب، ولكن الوقوف على المناهج أفضل وأعظم في باب الاستفادة، ولا يُنكر لدى بعض المستشرقين إسهامهم في المسألة المعرفية من باب المنهج، من دون أن يعفينا ذلك من ضرورة النظر النقدي لهذه المناهج وإعمالها ومجالات توظيفها. ومن نافلة القول أن نشير أيضاً، ونؤكّد أن ليس كلّ من عاش في الغرب ثمّ كتب عن عالم الإسلام والمسلمين يمكن أن نسميه مستشرقاً، بل إن بعض هؤلاء، خاصّة في الدراسات المعاصرة، قد أبلوا بلاءً حسناً في نقض فكرة المركزية الغربية من داخلها، وقد كان لهم عمل في مراكز بحثية، وكتبوا كتابات متميزة.

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *