القراءة الفاعلة تكون على مستويين، قراءة النصّ التراثي وفعّاليته في عصره، والأخرى قراءة النصّ وفعّاليته في عصرنا ومنظومة القضايا التي تثار فيه ضمن منهج الوقوف على المناهج لا المسائل. في هذا المستوى، نقصد بهذه القراءة إمكانات تفعيل هذه القراءة ضمن القضايا المعاصرة وتتخذ أشكالاً متنوعة مثل مداخل قراءة الاعتبار والاستثمار وعمليات التوظيف والتقويم والتشغيل والتفعيل للذاكرة التراثية، في الحقول المعرفية المختلفة، تمتدّ هذه القراءة بإمكانات التعامل مع التراث فنستفيد في ذلك كلّه ضمن الإطار الأكاديمي والواقعي والبحثي، وتمتدّ هذه القراءة بإمكانات التعامل مع التراث ضمن محاورها الأساسية: أهمية التراث في الذاكرة الحضارية، وتحليل النصّ التراثي والإمكانات الإحيائية والمنهجية، والمذهبية والشعوبية والاتجاهات الفكرية والثقافية والسياسية التي تنقض “قراءات الاختلاف والائتلاف”، ويصير التساؤل “هل من مخرج من الحلقة المفرغة؟” سؤالاً مشروعاً. ولعلّنا نستعير هنا عنواناً لكتاب المفكّر جورج طرابيشي “مذبحة التراث”، للإشارة إلى نفي التراث بعضه بعضاً من دون الالتفات إلى المضمون الذي يمكن الاستفادة منه على قاعدة من قراءة الاعتبار وقراءة الاستثمار في إطار عمليات التوظيف والتفعيل، بما يحقّق عناصر القراءة الإيجابية الفاعلة.

تجد القراءة الفاعلة أحد أهم شروطها في الموقف من التراث كما ذكرنا آنفاً في مقالات سابقة، وموضع التراث من الذاكرة الحضارية للأمّة، وقد اتُّخذ من التراث والتعامل معه موقفٌ يميل إلى أحد طرفَين، يجانب كل منهما العدل، سواء الاستهتار بالتراث أو التشبث به بما يشبه التقديس. والتعامل العدل مع التراث لا بدّ أن يتحرّك ضمن محاور أربعة: الأول، تحرير مسألة المنزلة الدينية للتراث، والثاني الإلزامية المنهجية المتعلّقة بالتراث؛ وإحياء التراث ضمن فهمه الواسع لها، والثالث التاريخية الزمنية التي يتصف بها ذلك التراث، والرابع ضرورات شمول تداوله. وحراك هذه المحاور الأربعة ضمن مفاتيح مفاهيمية مهمّة من مثل “صبغة التراث” و”الثقافة العدل مع التراث”، والاجتهاد التراثي إنما يتّجه بدوره إلى عناصر تقويم للتراث من التعرّف إلى حقيقته والهدف من التعامل معه، والموقف منه، سواء كان إيجابياً أم سلبياً، ومعايير التقويم وامتدادها إلى العناصر المتعلّقة بكلّ التراث، سواء تعلّق الأمر بالموضوع وتقويم موضوعاته أو تقويم الأهداف التي من أجلها كان التعامل مع التراث، وتقويم مناهج التعامل معه وتقويم المادة والمصادر التراثية الممتدّة والمتنوعة.

والتقويم للتراث هو أولى الخطوات في القراءة الفاعلة، وهى خطوة تشتمل على جملة من العمليات من مثل وصف الخرائط المختلفة المتعلّقة بالتراث مثل خريطة المصادر الممتدّة والمتعلّقة به إجمالاً، والخرائط التخصّصية ضمن الحقول المعرفية المختلفة، وخرائط المواقف حيال التراث جملةً، ثمّ تحريك عناصر منهجية صوب القراءات الإيجابية للتراث لا الانتقائية أو السلبية، ثمّ بناء شبكة من المعايير المختلفة، على أساس منها يُقوّم التراث وحركته والإمكانات والقيمة الذاتية الكامنة في بنيته وتشكيلاته، مع الأخذ في الاعتبار تصنيفاته ضمن المجالات المعرفية المختلفة، وما يرتبط بذلك من السمات العامّة للتراث، والسمات الخاصّة، التي تتعلّق بفرع منه. ومن جانبٍ آخر، ارتباط عملية التقويم بعمليات التوظيف والتفعيل والتشغيل في إطار محاولات إجرائية ذات آليات واضحة تمكّن الباحث من توصيل قيمة التراث والتواصل معها.

ارتباط عملية التقويم بعمليات التوظيف والتفعيل والتشغيل في إطار محاولات إجرائية ذات آليات واضحة تمكّن الباحث من توصيل قيمة التراث والتواصل معها

ومن الضروري ردّ الرأي الذى يرى إلزامية اتباع التراث دينياً، إلا أن من الواجب، في المستوى نفسه، الإشارة إلى أن يكون التعامل معه منطلقاً من مبدأ الاحترام النافي للاستهتار والتخيير النافي للتقليد الملزم، والقراءة الفاعلة والتفعيلية للتراث ضمن المجالات المعرفية المختلفة، وضمن تنوّع المجالات الحضارية الممتدّة، باعتبارها قراءة تتعلّق بالضرورة المنهجية والضرورة الواقعية ووظيفة التراث في بناء وعمارة الحضارة، القراءة الفاعلة ضمن منظور حضاري يعتبر نصوص هذا التراث نصوصاً حضارية تتحرّى عناصر حفظ ذاكرة الأمّة، ويوظّف عناصر إيجابيتها، ويعتبر من عناصر سلبياتها، من دون تبنٍّ مطلق أو مقدّس، أو تجنٍّ مستهتر يقوم على اتهام التراث.

لقد حاول الكاتب ضمن هذه القراءة أن يتحرّك من القراءة العالمة صوب القراءة الجامعة، استهدافاً إلى القراءة الفاعلة. وضمن هذا المساق كان علينا أن نفكّر في قضية المذهبية ضمن إطار ومنهجية يحييان عناصر حقائق الاختلاف، وأدب الحوار، والتعامل المنطلق من أرضية الاختلاف إلى أرضية التعارف والائتلاف. في هذا السياق، يجب أن نبحث عن المناطق الحقيقية للاختلاف لا مواطنه المتوهّمة، علينا أن نحرّر معظم الاختلافات التي نتعامل معها بعقلية الاستهلاك، هذا في كل ما يورث عناصر تعصب مذهبي لا طائل من ورائه سوى ميراث التنازع ونتاج الفشل، وثمرته ذهاب الريح والأثر، إنها حركة وتحريك عناصر التعدّدية الثقافية، وأصول الحوار، وحقائق التعايش والتعارف ضمن عمليات مهمّة يتعرّف فيها الجميع إلى تقصّي عناصر تنقل مداخل الاختلاف إلى آليات ائتلاف.

تقويم التراث أولى الخطوات في القراءة الفاعلة، يشتمل على الخرائط والمعايير والمناهج

ومن أهم عناصر القراءة الفاعلة أن تقترح علينا موضوعات وإشكالات بحثية، سواء في التراث أو في واقعنا المعاصر، واقتراح مسارات تحليلية لقضايا تراثية أو معاصرة. علينا بحقّ أن نتحرّك صوب دراسات أصبح التأخّر عنها مجالاً للأحكام المتسرّعة من دون دراسة متأنية، أغلب ما تكون أحكاماً سماعية أو بحثاً متعجلاً، لا أحكاماً بحثية متقصّية. ومن خلال القراءات المتعدّدة والمتعدّية وتكامل هذه القراءات، ضمن شبكة علاقات تفسيرية، يمكننا أن نستنتج أكثر من معنى، سواء تعلّق بمناهج النظر للمسألة موضع القراءة أو مناهج التعامل أو مناهج التناول. ويحسن بنا في هذا المقام أن نشير مؤقتاً إلى مقدّمة أساسية نراها ضروريةً لخطّ القراءة الفاعلة لبناء منظومة المنهج في تفاعل واستطراق بين عناصرها في النظر والتعامل والتناول، مفادها التعامل مع النصّ التراثي باعتباره نصّاً حضارياً، وما يتركه ذلك من آثار ضمن منظومة المنهج. فهذا التعامل هو الذي يولّد فعّاليات النصّ ومكنوناته، ويحرّك ضمن عناصر التحليل للنصّ التراثي أصولاً لا تتعامل مع النصّ كما يتراءى لبعضهم باعتباره ضمن جملة النصوص الأدبية، فلا ينظر إليها إلا على أنَّه نصٌّ أدبي ميّت أو نصّ تاريخي متحفي.

والنصّ الحضاري له شأن آخر، وربّما يُعد شرطاً للقراءة الفاعلة، فهو يفرض على من تبنّى أو تجنّى أصول منهج نظر تجعل النظر التراثي “كياناً حيّاً” من المعلومات والقدرات والإمكانات، وامتدادات توضع في قلب عناصر الذاكرة الحضارية التراثية والتاريخية. وتُعتبر هذه النصوص ضمن هذا المنظور أن فيها بعض ما في النصّ الأدبي، إلا أن هذه التصوّرات غير كافية في أي حال، فالنصّ الحضاري هو كذلك في البدء، إلا أنه حضارة في النهاية، بها يستمدّ ذاتيةً تُراعى عند الشرح أو التحليل. وهذه الرؤية تدفعنا إلى الإقرار بأن كل نصّ هو نصّ حضاري، وأن النصّ الأدبي فى ذاته حضاري، إلا أن المقاربة الأدبية (منهج النظر والتعامل والتناول) ليست كالمقاربة الحضارية، إذ تسعى الأولى إلى أدبية النصّ جوهراً، والثانية تستطلع مواطن الأفكار فيه بوصفها تُحيل على الواقع الإنساني في إطار مخصوص، وتجعل عناصر القراءات المتداخلة والمتكاملة والمتواصلة حركة فاعلة بين القراءات. وضمن هذا السياق يمكننا النظر إلى النصوص التي تتعامل مع قضية من القضايا باعتبارها نصوصاً حضاريةً، تفرض نسق القراءة المفتوحة، المتضمّن لإحسان القراءة والتفاعل بين القراءة العالمة والجامعة والفاعلة.