وصلاً بالمقال السابق “الربيع العربي وإعادة التفكير في النهوض الحضاري” في “العربي الجديد” (11/11/2022)، حضرتُ محاضرة ماتعة للباحث السوري، مازن هاشم، عنونَها بـ “مقامات الفكر الدعوي ولماذا نحن نحن”، ووجدتني، قبل أن ينتهي من محاضرته، أفكر في عنوان مقترح لها، “السياسي والاجتماعي في التغيير والإصلاح والتجديد والنهوض”. وقد يكون هاشم قد اختار عنوانه ذلك، طبقا للجمهور المستهدف بالخطاب، وهو ما قد يفرض، في بعض الأحيان، تقديم الفكرة من مدخل معين، منها اختيار العنوان لتيسير وصولها إلى متلقيها. وقد أشار إلى أنه منشغل برصد بعض التطورات في مسيرة الفكر الإسلامي في القرن الماضي، مبيّنا أنه ينطلق من الالتزام بالإسلام والاشتباك (استخدم فعل يعترك) مع سيل مدخلات الحضارة الغربية التي عمّت منذ بواكير القرن العشرين، وعقب تراجع السيطرة الأوروبية السياسية المباشرة على مجتمعات المسلمين، مؤكّدا انشغاله بما أسماه “التحدّي المنهجي الذي واجهته الطروحات الإسلامية”. ولذلك حرص على تقديم طرح فكري لمبادئ الإسلام وطرقه ونظرته نحو الحياة، وهو ما يراه مفارقا للطرح الذي يقدّمه المنظور الغربي العلماني وطرقه في الحياة. ولذلك ينتقد مازن هاشم تلك الأطروحات، بما فيها من انحراف وتضخيم للجوانب المادية للحياة، من دون أن يهمل الإشارة إلى الإنجازات الفكرية والعلمية المهمة، منوّها بأهمية الجذور الفكرية والفلسفية التي تضع المنجز الفكري في سياقه وإطاره الأصيل. ولذلك حرص على بيان انشغاله بتقديم رؤى تعيد طرح أفكارٍ مختلفة في مواجهة ما “يغمرنا من خطاب ثقافي يضيق بالأوضاع الموروثة، وما نعيشه من واقع يرتسم وفق النموذج المدني الأوروبي”. ليس المقصود من هذه المحاولة “التأريخ المفصّل للجهود الفكرية المتعدّدة والمتنوّعة، وإنما المقصود إضاءة التحدّي المنهجي الذي واجهته الطروحات الإسلامية. وبذلك لن يكون التركيز على مسألة التجديد الفقهي بذاته؛ وإنما سيكون التركيز على الطرح الفكري لمبادئ الإسلام ومبادئه وطرقه ونظرته نحو الحياة، ذلك الطرح المفارق للمنظور الغربي العلماني وطرقه في الحياة”.
وقد أجاد مازن هاشم في تصنيف الموضوع وبيان اتجاهاته ومحاوره وأبرز الكتّاب والمفكرين وتياراتهم، وانشغل أكثر ما انشغل باستكشاف المنهجية وبيان حدودها ووسائلها، من دون أن يغفل عن مزالقها وفخاخها، وفصّل في السمات الرئيسية للخطابات المختلفة، سواء الإصلاحي أو تيار تأكيد الذات ونسقها، مشيرا إلى أن السمات الرئيسية للخطاب الإصلاحي، تتمثل في أن التقليد والانكفاء على الماضي بدون بصيرة أمرٌ مضرّ. وضرورة إعمال العقل في فهم الشريعة وتنزيلها، وأمور النهضة هي من ساحة العاديات المتروكة للاجتهاد البشري، وضرورة الانفتاح على الحضارة الحديثة والاستفادة منها في تحسين واقع المسلمين، والطريق هو الإصلاح التدريجي ومداراة السياسة وأصحاب النفوذ. والخلاصة، يركّز التيار الإصلاحي في مسألة النهضة على أن مشكلة فهم الدين تكمن في تغييب العقل عند فهم النصوص. ومشكلة الغرب هي في قيمه وفق تقدير هذا التيار الذي أسماه الإصلاحي، في حين أن قوة الإسلام هي في قيمه الخالدة. وفي المقابل، قوة الغرب هي في علومهم، وضعف المسلمين هو في رفض علوم الغرب. إذا، الحل المنطقي جمع عناصر القوة: قيم الإسلام + علوم الغرب. ولا يخفى أن طرح إشكالية النهضة على هذا النحو شديد التبسيط، وجرى التعديل عليه من التوجه الحركي، وجرى رفضه تماماً من التوجه الإسلامي التخصّصي. في حين أشار إلى أن خصال تيار تأكيد الذات تتمثل في الشمولية في فهم الإسلام والتأكيد على أنه نظام حياةٍ متكامل، والأمور التربوية على الصعيد الفردي هي نقطة البدء، لكنها غير كافية للإصلاح العام، والانتقائية الفقهية ووجوب قراءة النصوص بشكلٍ لا ينحصر في حيّز الأحكام، وأهمية البُعد السياسي في تحديد مصير الأمة، وشعور التعالي نحو الآخر الحضاري الغربي ورفض مفرزاته على مختلف الصُعد. ولذلك، فإنه يشير إلى أن الخطاب التغييري لتيار تأكيد الذات وسّع الساحة المطلوبة للإصلاح.
ستظل إشكالية التصنيف للخرائط الفكرية والثقافية لا تقوم بذاتها، إلا إذا اتخذت مكانها المناسب في الخرائط المعرفية
كما بيّن أن الطرح الغربي شامل على صُعد السياسة والاجتماع والاقتصاد، ووصفه بأنه غزو فكري لا يكفي فيه التأكيد على قيم الإسلام، ولا الردّ على الشبهات (مثلاً تعدّد الزوجات أو الرقّ وغير ذلك مما طرحه الـمُستغرِبون)، ومؤكّدا أنه لم تعد تقتصر منابع الردّ الإسلامي على علماء الشريعة، كما تجاوزت ساحة المتخصّصين في الفكر والحضارة، وأنه قد دخلت ساحةَ الفعلِ الإسلامي قوى جديدة، همّها استنقاذ المجتمع المسلم بكلّيته، بسياسته واقتصاده ونمط اجتماعه، وليس مجرّد تحديث قوانينه وتجديد فقهه، وأن الوعي الجمعي للأمة سلَّم دفّةَ التجديد الفكري إلى القوى الأكثر انخراطاً مع واقعها (بغض النظر عن جاهزيّتها لذلك). وأشار إلى أن “الفكر الإسلامي” يتميّز بميزتين: شموله مباحث في علوم شتى، وارتباطه بالحركة وهِمّة التغيير والتحرّر من قوى الاستخراب الخارجية والطغيان الداخلي، مؤكّدا أن هذا هو وجه قوّة هذا الطرح الفكري ووجه ضعفه في آن؛ فوجه قوّته أنه ممتزجٌ مع الهمّ العامّ للأمّة، وفي جنباته عزم التغيير، ووجه ضعفه أنه متراخٍ من ناحية التخصّص وتركيزه شُتّت بين الضبط العلمي والإنجاز العملي. ولذلك من أجل فهم مواضع الخطاب الإسلامي الدعوي وطبيعة تعامله مع الواقع يلزم تفحص بعدين: التوجّه الحركي كرؤية للعمل والتأثير من جهة، ومدرسة التعامل مع النص من جهة أخرى.
ويخلص إلى أن النظر إلى الواقع الإسلامي يُظهر وجود إمكانات ضخمة على كل المستويات، ولكنها إمكانات تفتقر إلى الجسور وأقنية التواصل والتفاهم، ويشدّد على ضرورة ألا نفرط في أي جهد أو عطاء نمتلكه كأمة، مشيرا إلى أن التحدّي الواقعي أن للحركات رموزاً توصف بأنها مفكرة وكتابات توصف بأنها كتابات الفكر الإسلامي، مع أن هذه الكتابات يغلب أن تكون أدبيات عامة، فيها فائدة وانطباعات ذكية، فتنقدح الإشكالات عندما يُنظر إليها على أنها فكر ممحّص محكم، وعندما يظن أن الفكر العملي المُنزل يمتلك الإجابات النهائية، وأن المخالف منحرفٌ عن الجادّة أو متخاذلٌ عن ساحة الجهاد. وإنه لا يمكن ادّعاء التكامل بمجرد وجود أنواع متعدّدة للحركة، فلا بد من توفر رؤية شمولية تقبل التنوع أصلا وأساسا. أما في غياب تجذّر فكرة التنوع، فينقلب التعدّد إلى تعدّد إلغائي يهدم فيه نتاج كل فريق جزءا من نتاج الآخر.
الخطاب التغييري لتيار تأكيد الذات وسّع الساحة المطلوبة للإصلاح
ستظل إشكالية التصنيف للخرائط الفكرية والثقافية لا تقوم بذاتها، إلا إذا اتخذت مكانها المناسب في الخرائط المعرفية، ذلك أن التعريف يجب أن يسبق التصنيف، وأن التصنيف لا بد وأن تعقبه عملية تسكين وتكييف. هذه العمليات في تكاملها، من المهم أن نلحظ ارتباطها وأهميتها في هذا المقام. هذا ما دفعني إلى تأكيد أن الدراسة هي وظيفة عملية التصنيف كما هو معروف عنها، ولذا لا يمكن إنكار ما يشوبها من تعميم واختزال في آن واحد، وقد حرص مازن هاشم على توجيه عملية التصنيف إلى النمذجة، وذلك هو جوهرها. ومن هذا المنطلق، أستطيع أن أوضح أن عملية التصنيف تلك تسهم في فهم المنظورات الفكرية المختلفة، إلا أن هذا الفهم لا يكتمل إلا بعمليات عديدة أخرى. ومن ثم، فإن تلك المحاولات المستجدّة من الأهمية رصدها والتعرّف على المعايير المختلفة للتصنيف ضمن خرائط هذه الاتجاهات.