تراوحت فكرة المنعطفات التاريخية التي تناولتها مقالات سابقة لكاتب هذه السطور بين أن يكون للحدث طبيعة دولية، أو داخلية، أو تربط بين الداخل والخارج. وأيا كانت تلك التصنيفات وطبيعتها، فإننا أمام أحداث تاريخية مفصلية تؤثر في مسارات تاريخية، تتهيأ قبلها بأحداث، وتترك بعدها مآلاتٍ كبرى تتعلق بها. ويتعلق المنعطف التاريخي في هذا المقال بشهر سبتمبر/ أيلول الذي تجري أيامه، وتحلّ ذكرى هذا الحدث الثانية والعشرون. منعطف تاريخي لا يمكن تجاهله، ولا يمكن القفز عليه.  وفي حقيقة الأمر، يستأهل أن يسمّى “الحدث الكوني” من حيث آثاره، ومن حيث اهتمام العالمين به، وكذا التعرّف على الآثار التي تركها؛ وعالم الأفكار التي ولدها، بل وعالم الغزوات والحروب التي تبعته. في هذا السياق، علينا أن نتوقف قليلا عند ما يمكن اعتباره حدثا كونيا، والخصائص والسمات التي ترتبط به.
في هذا العصر، الدول الكبرى أو العظمى التي تتبع سياسات كونية حينما ترتبط بعالم أحداثٍ يقوم بالنيل منها أو من مكانتها، فإن هذا الحدث يعدّ بذلك حدثا كونيا، حينما يبلغ الضرر “السيد العالي”، وإن هذه الأحداث التي كانت وقامت في 11 من سبتمبر/ أيلول في عام 2001، كانت من هذا الصنف وشكّلت صدمة للعالم أجمع، من بين أنقاض البرجين العالميين للتجارة. كان المعنى الذي برز هو استهداف أكبر دولة رأسمالية في عالمنا المعاصر، وبما انعقد لها من قيادة الحضارة الغربية، حدث انهيار البرجين اللذيْن يمثلان رمزا للرأسمالية العالمية، أي أنه استهدف مكانة الولايات المتحدة دولة عظمى، كما استهدف رموز الرأسمالية العالمية، متمثلة في برجي التجارة العالميين. وبقطع النظر عن هذا الربط الذي قد يعتبره بعضهم تجاوزا ومبالغة منا، شكّل هذا الحدث في الحقيقة جملة من الرسائل أثرت ليس فقط في تشكيل نظام دولي، بل وفي صياغة شأن العلاقات الدولية والعلاقات الإقليمية وكثير من السياسات الخارجية للدول.

تهيأت الناس في بداية الألفية الجديدة لحدثٍ جلل في سياقات الخوف من المجهول

جدير بالذكر في هذا المقام أن ذلك الحدث التاريخي وقع في مفتتح قرن، بل وفي مفتتح ألفية جديدة، القرن الحادي والعشرين، والألفية الثالثة، يبدو أن العالم في صدر الألفية وقد انتشرت فيه جملة أفكار ترتبط بقيام القيامة عند المتنبئين والعرّافين، فيتحدّثون عن القيامة الألفية التي سنشهدها، ويحدّدون الأيام بل الساعات. وبغض النظر عن تلك التنبؤات وجدواها ومع انتشار كتاباتٍ تبشّر بتلك القيامة في الغرب، بل وفي سائر المعمورة، فإن الناس قد تهيأت لحدثٍ جلل في سياقات الخوف من المجهول. وبدا السؤال ينتشر على ألسنة عموم الناس، هل ستقوم القيامة فعلا؟ وفي المقام ذاته، لابد أن نشير أيضا إلى فكرة تتعلق بمفتتح القرون؛ ووردت في حديث للنبي صلى الله عليه وسلم في حديثه [إن الله يبعث على رأس كل مئة من يجدد لهذه الأمة دينها] ليعبّر عن أن القرن في ذاته يعد وحدة زمنية غاية في الأهمية، في مفتتحه يحدث حدث جلل ومؤثر، قد يشكّل عالم الأحداث المتتالية والمتوالية، فيظلّ القرن ينشغل بهذا الحدث الكبير الافتتاحي، ويحكم مسارات العالم وعلاقاته. وفي السياق، كان لدينا أستاذٌ جليل لتاريخ العلاقات الدولية، أستاذنا الدكتور سمعان بطرس فرج الله، الذي عقب على فكرة مفتتح القرن هذه، وأكد أن القرن قد لا يبدأ في تاريخه المحدّد، بل ربما يبدأ من قبله، أو من بعده بسنوات، وأكّد أن الأمر قد لا يتعلق بحادث واحد، ولكنه بجملة أحداث تتداعى كلها، تنتظم الدنيا وتؤثر في كامل المعمورة. هكذا بدا لهذا الأستاذ أن يتحدّث كيف نتعامل مع عالم الأحداث الذي يكون في مفتتح القرون، ونتوقف عنده في سياق التقاط العبرة من الفكرة والخبرة.

حدث كوني في افتتاح قرن وألفية جديدين، شكّل، من دون إغفال أهميته، حدثاً أميركياً صار كونياً

ظننا أن هذا المدخل الزمني مدخل لحدث كوني في افتتاح قرن وألفية جديدين، شكل بحقّ، من دون إغفال أهميته حدثا أميركيا صار كونيا، بحكم اتّباع الولايات المتحدة سياسات خارجية ترتبط بدول العالم في معظمها، وتشكّل مسارا في العلاقات الدولية والسياسات الخارجية، فهل كان حدث 11 سبتمبر حدثا كونيا بحق؟ أم أن ذلك الحدث كان مناسبة لأن تخرج الحضارة الغربية ممثلة في قيادتها الأميركية كل كوامنها الفكرية والحركية التي تتعلق بهذا المستقبل ورؤيتها إلى العالم في ظل رؤية عولمية تتصاعد وتفترس النظام العالمي، بل إنه، في الوقت ذاته، الذي اسُتهدفت الولايات المتحدة بهذا الحدث، وربما قبله، فإن وثيقة أميركية قد خرجت تتحدّث عن “القرن الأميركي” بامتياز. وأكثر من ذلك وبعد توالي أحداث وتراكمها تحدّث بعضهم عن “صفقة القرن” مشروعا أميركيا، لعل كل هذه الأمور تجعلنا نتوقّف عند هذا الحدث المعقد، ولا نتساءل الأسئلة التقليدية حين نعالجه بوصفه منعطفا تاريخيا من المهم أن نتوقف على آثاره، والمترتّبات عليه، ولواحقه ومآلاته.
ولعل هذا الأمر لا يرتبط بما يمكن تسميته الركون إلى نظرية المؤامرة، سواء في الحدث الأميركي أو في صفقة القرن التي يلعب فيها الغرب دورا رئيسيا لا يمكن إنكاره في إعادة فك وتركيب المنطقة الاستراتيجية في الشرق الأوسط الذي يتمدّد ويتوسّع وفقا لأهداف الاستراتيجية الأميركية والغربية، ما بين شرق أوسط جديد، وما بين شرق أوسط موسّع، وبين شرق أوسط يتعلق بمساحات جغرافية ربما تتأبى الجغرافيا ضمّها إلى مساحات هذا المفهوم الجغرافي الذي اخترعه الغرب في محاولة لتسكين كيانات مصطنعة فيه، اصطنعها الغرب على عينه، وأهمها الكيان الصهيوني الذي كان له قصص مع منعطفاتنا التاريخية في النكبات والنكسات.

مصطلح “القرية العالمية” مخادع، ذلك أن هذه القرية العالمية تسيّدها القوي بطغيانه ونظام معولم مشوّه

هكذا يمكن أن نتوقف عند حدث كهذا يشكل منعطفا تاريخيا ومفصليا، رغم أنه كان يوما أميركيا بامتياز، وهنا ربما يطرح السؤال الكبير: كيف نلتقط الفكرة من الخبرة، ومن الخبرة نلتقط العبرة في حدث كهذا؟ هذه المسألة يجب أن ينظّمها منهج قويم ورصين في التعامل مع عالم الأحداث والمنعطفات الكبرى التي تواجهها المعمورة بأسرها ضمن تحدّيات لا تعرف ذلك الفصل بين الداخل والخارج، فإن الداخل صار خارجا، والخارج صار داخلا، لا نقول هذا بالتعبير المشهور، والذي ذاع أن العالم صار “قرية عالمية”، لأنني أراه تعبيرا مُخادعا، ذلك أن هذه القرية العالمية تسيّدها القوي بطغيانه ونظام معولم مشوّه؛ يقوم على صناعة العدو في العلاقات الدولية والخارجية، من خلال صناعة كبرى تترافق معه وتتعلق بأجهزة إعلامية خطيرة، وأجهزة مخابراتية وأمنية عالمية مريبة، وأهداف في العلاقات الدولية ظالمة وعميقة.
ولعل ذلك كله يجعلنا نتذكّر تلك الحملات التي اعتمدها الغرب ضمن استراتيجيته حول الإرهاب و”الإسلاموفوبيا”، وهو ما يجعلنا نوضح حزمة أحداثٍ يتوارى بعضها ويبرُز بعضها ضمن هذه الصناعة. ولكنها، في النهاية، شاهد على علاقات هذا العالم المأزوم الذي احترف  ظلما في سياساته، وانتقائية في استراتيجياته، ما جعل التساؤل عن النظام الدولي في ذاته، والقيم والمعايير التي يستند إليها، والعلاقات الدولية التي سادت وظلت تُمارس ظلما بيّنا في علاقات الدول المختلفة، وفي النظر إلى السياسات الكونية من منظور مصالح قومية أنانية ضيقة. إنه العالم المتّسع الذي لا يعرف تلك السيطرة الكاملة على مقدّراته وشؤونه، حتى لو أراد هؤلاء أن يكونوا أو يؤسّسوا إمبراطورياتٍ على مر التاريخ. ليس هذا الأمر بالشأن الهيّن في أمور تتعلق بالإصلاح وبالنهوض والتغيير في بلادنا وصياغة مستقبلها، فهذا كله يحدُث في وسط عالمي ونظام دولي هذا شأنه؛ والذي لا يعرف إلا لغة المكانة والتمكين.