نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 8 مارس 2023

من طبيعة المستبدين أنهم يقومون بعد كل فترة من إطلاق أمر جديد، مثل ثورة التصحيح، أو البناء الجديد، أو يتحدث بعبارة مبهمة مجهلة “من أجل المستقبل”. والمستبد في بلدنا في هذه الآونة يحمل ما يمكن تسميته “أوهام الجمهورية الجديدة”، فلم يقل لنا ما هو الجديد في جمهوريته، وقد وصل بها الحال إلى أزمة اقتصادية طاحنة. ويتحدث البعض عن فشل هذا المشروع من داخل ذات المشروع، وبدا للبعض من هؤلاء الذين يروجون لطبيب الفلاسفة أن يحاولوا إعفاءه من المسؤولية عما وصل إليه حال العباد والبلاد.

بل وصل الأمر في ذلك إلى هذا الرعب المتراكم لدى صاحب هذه الجمهورية الجديدة وخوفه من أي تغيير قادم، ليطلب من جمهور الناس أن يقوموا بالتبليغ عن أولادهم: “يجب أن ننتبه للأمن في مصر، والناس تتعاون وتقولنا خدوا بالكم ابننا دا متلخبط واحنا هنشوف حل معاه ونفهمه ومش هنضيعه”.. تصريح فريد من نوعه يعلن فيه قائد هذه الجمهورية -بصورة هزلية- مخاطبا المجتمع وعموم الناس أن يقوم الآباء والأمهات بالإبلاغ عن فلذات أكبادهم، بعد أن أضاع بعضهم قتلا وسجنا واعتقالا ومطاردة، ودفع بعضهم إلى إلقاء أنفسهم في عرض البحر هروبا من ضيق الحال عليهم في بلادهم وطلبا للأمل في حياة أخرى في بلاد جديدة يعيشون فيها غرباء لاجئين منفيين. ورغم ذلك قام هذا الطاغية الذي احترف الذهاب إلى دولة هنا أو هناك؛ يتذلل ويخنع أملا في الحصول على معونة أو دعم ماديّ يراق فيه وجه الدولة ككيان معنوي، كل ذلك يحدث أمام ناظريه ثم يتحدث ويخاطبنا عن جمهوريته الجديدة الموهومة.

وفي ذات الوقت فإنه لا يتورع عن ممارسة فاشيته فيقوم بجرد القضايا ويقوم قضاته بعمل أحكام مجرمة وغاشمة في حق الناس بالتلفيق ومن دون تحقيق، بعد أن حبسهم حبسا احتياطيا يعد بالسنوات فيعاقب كل هؤلاء عقابا مركبا مهينا لهم ولأسرهم فإن تقدم لمعاونة أهالي المعتقلين في معاشهم وتدبير احتياجاتهم في زيارة ذويهم، حتى أن البعض صار يتحدث “أنه لا مستقبل لهذا البلد ضمن هذه الخطة البائسة الباطشة التي يقوم بها”.

وفي مشهد آخر مريب وخطير، يقوم بحضور امتحان لموظفين مدنيين في كلية عسكرية لوزارة من الوزارات المدنية ليعبر بذلك عن أقصى درجات الإفلاس لجمهوريته الموهومة وليدعم الصورة المزعومة بعسكرة كل شيء في المجتمع وساحاته ومساحاته المدنية، وليعلن ليس فقط سيطرة العسكري على المدني، ولكن ليصدر الرؤية العامة التي تتعلق بتحكم العسكر في الآجال والأرزاق، حاشا لله سبحانه وتعالى مقدر الأقوات والأرزاق والحياة والآجال. إنها جمهوريته الموهومة التي يبشر بها ليل نهار؛ وكأن المدنيين فاشلون لا يصلحون لشيء، والعسكر حاكمون مهيمنون على كل شيء.

وهو يعتقد اعتقادا جازما أنه حينما يتحدث عن منشآت جديدة وطرق جديدة وعاصمة جديدة أنه بذلك يبني جمهورية جديدة، فلا يتعرف على أصول تلك الجمهوريات الكبرى التي تعلن عن مراحل فاصلة في تاريخها، ولكن اليوم ينكشف القناع عن إعلان عن فشل ذريع لجمهورية جديدة موهومة، هذه الجمهورية صنعها المستبد الفاشل في عقله، وصار يطبق ذلك على الأرض، إنها أشبه بروايات “جورج أورويل”، حول المجتمع الجديد والبلد الجديد الذي كان يدار بأشكال فاجرة من الفاشية والشمولية ويعبر عن أقصى درجات اللا مبالاة في حياة الناس والبشر وكرامتهم وحياتهم ومعاشهم.

إنها جمهوريته الجديدة التي اتسمت بسمات كثيرة كلها تدل على الفشل والفساد والفجر والفاشية والإفلاس؛ فهي الجمهورية الجديدة التي فيها مشروعات بلا مردود (قناة السويس الجديدة، والعاصمة الإدارية الجديدة)؛ حيث يصرح بملء فيه أنها مشروعات لرفع الروح المعنوية للمصريين، جمهورية بيع الأصول. ويبرر ذلك من خلال إعلامه وزبانيته “أنه مفيش حاجة في أي دولة في العالم مش للبيع”.

وقد توسع في الاقتراض بفائدة تتجاوز 11 في المئة بضمان الأصول المصرية.. إنها جمهورية الفساد ومشروعات السبوبة؛ حيث يتم توزيع المشاريع على الهواء مباشرة (يا حج سعيد)، جمهورية شراء الشرعنة (الرشاوى السياسية في الداخل والخارج)؛ في الداخل تبقى المشاريع الكبرى في أيدي القوات المسلحة، وفي الخارج صفقات الأسلحة والغواصات وحاملات الطائرات، إضافة إلى الطائرات الرئاسية التي تتجاوز قيمتها ما يقرب من نصف مليار دولار، فالعسكرة هي العنوان الرئيس لهذه الجمهورية.

الجمهورية الجديدة هي جمهورية السجون الجديدة والمعتقلين (مصر المحبوسة)، وعلى الجانب الآخر هي جمهورية الجباية، التي فيها الجميع يدفع؛ ضرائب، ورشاوى، وغلاء أسعار وخدمات، وهي في ذلك جمهورية الاستخفاف بالمواطنين والمواطنة، التي لا يعترف فيها قائد الجمهورية الجديدة إلا بالعسكريين، حتى أنه عندما يجد ما يعكر عليه جولاته الصباحية على مشاريع الطرق القومية ينادي بأعلى صوته “فين المدني اللي هنا”.

إنها جمهورية القهر والخوف والظلم (الاستبداد المركب)، جمهورية القناع الديني والأخلاقي والتدمير المجتمعي وفقدان المعايير، جمهورية الثقافة المغشوشة، جمهورية التبعية للخارج.. هذه هي جمهوريتهم؛ جمهورية الطبقة الحاكمة، جمهورية العصابة في كنف البلطجية، تلك الجمهورية التي شعارها “متسمعوش حد غيري، وبطلوا هري.. إنجازات دي ولا مش إنجازات”، هي الجمهورية التي يحاول أن يقيمها على أعمدة الإلهاء والإغراء والإغواء والإغراق في المشاكل والأزمات.

الجمهورية الجديدة، جمهورية القصور (أيوه ببني وهبني)، جمهورية أكبر مسجد، جمهورية أكبر كنيسة، جمهورية أكبر برج، جمهورية أكبر نهر صناعي؛ هكذا هي صورة الجمهورية الجديدة التي يفكر فيها قائد هذه الجمهورية، والعاصمة الجديدة التي هي العنوان الأبرز للجمهورية الجديدة.. وكذلك صناعة النخبة الجديدة، وإحاطتهم بسور واحد، وجلب كل ما يلزمهم للاستمرار في مقامهم بأريحية.

الجمهورية الجديدة صغيرة الحجم، مقارنة بمساحة مصر.. سبق وتحدثنا عن أسقف الاستبداد في عصر المخلوع مبارك؛ والشعار الذي تحمله لدنو هذا السقف فكان منخفضا شديد الوطأة على عموم العباد وطول البلاد وعرضها، ولكنها -أي البلاد- كانت في زمنه على مقاسه؛ ومن ثم كان شعاره إن لم تكن قزما فلتتقازم.

أما شعار هذا المنقلب الفاشي صاحب الجمهورية الجديدة المزعومة نشأة والموهومة إنجازا؛ أن كل شيء قابل في هذه البلاد للبيع؛ “أنا لو ينفع أتباع لأتباع”، شعار بلغ حدا بعيدا من الدناءة والتقزم والقزمية، وأهم ما فيها الإنكار من جانب هذا المستبد الفاشي عن مسؤوليته الكبرى عن هذا الفشل والإفلاس؛ فهو تارة يحيل كل أمر وفشل إلى أهل الشر؛ أو إلى أيسر شماعة التي تتعلق بالإخوان، فإذا لم يقل ذلك بالمباشرة؛ تابعه زبانيته وجوقته الإعلامية إنهم الإخوان وحركتهم الإرهابية؛ وصار كل هؤلاء يتسابقون إلى اتهامهم من أقرب طريق وفي كل أمر أو أزمة؛ حتى أن بعض المثقفين المتملقين صاروا يتطوعون بهذا الاتهام؛ وتارة يلقي بذلك بعبء الأزمات على أحداث يناير -كما يسميها- وأنها المسؤولة عما آلت إليه الأمور؛ وتبريراته وزبانيته أكثر من أن تعد ضمن ثقافة إنكار يستغلونها.

هذه هي جمهوريته الجديدة التي يبشر بها وزبانيته؛ فمن يريد منكم أن يكون عضوا فيها فليحجز مقعد ذل ومهانة وإهانة؛ ووهن وانعدام كرامة في جمهوريته الجديدة؛ يتنعم بأحوالها المهينة ويرفل في معيشة ضنكها؛ ويتمتع بالضيق والتضييق في الحياة فيها.. جمهورية العبيد في خدمة أسيادها من العسكر؛ من منكم يريد أن يقع نزيلا في سجونها ذات النجوم السبع؟ سجونها الجديدة والعجيبة التي اتخذت شعارا ورد في إعلان عن مجمع السجون الجديد فجعلها “فرصة للحياة” في سجون المستقبل؛ إذا ما أردتم أن تكونوا فيها المواطن المديون لعقود قادمة؛ الفاقد لحريته وأمنه وأمانه؛ والذي يجيد مهارات العيش في الذل متنازلا عن كرامته فأسرعوا وهلموا إلى جمهوريته الجديدة زعما ووهما.