المكان والزمان والتدبير والالتزام في رؤية صراع الأمة مع الكيان الصهيوني هي رباعية الأركان؛ ضمن رباعية حمدان، والبِشري، وربيع، والمسيري. حينما كانت عين حمدان على المكان فلم تره إلا بزمانه، ومعطيات تدبيره، ومقتضيات التزامه. الالتزام بروح المكان (المكان الميت) هو المنظور إليه كجغرافيا، والمكان الحي زمان وتدبير والتزام (إنها جميعا روح المكان)؛ إن حمدان بفعل تخصصه في الجغرافيا الحضارية يذكرنا بفقه عميق بمقتضيات ومتطلبات المكان، بالوعي بالمكان والوعي بزمان المكان الممتد والسعي فيه والحركة بمقتضى فروضه وفرائضه وافتراضاته.
المكان بالنسبة لحمدان وعاء الحضارة وحاضنة النظر الحضاري، وهو بذلك إمكانية وإمكان ومُكنة ومكنون ومكانة وتمكين. والصراع العربي الإسرائيلي صراع إمكانية وصراع إمكان وصراع مكنة وقدرة وصراع مكانة وفعل وفاعلية، وصراع تمكين. إنه المكان الذي يتحدث عن نفسه فيقول: أنا لست بالمكان الصامت أو المصمت أو القضاء المتسع الممتد الفارغ، إنه مكان الحُجة لنا أم علينا، المكان النعمة حينما يتحول إلى نقمة بضعفنا والأطماع فيه، والمكان مكان (الوسط) بما يفرضه ذلك الوسط من سياسات وعلاقات ومقاصد وغايات.
روح المكان تتحدث لنا عن موضعنا من صراع الأمة مع الكيان الصهيوني الإسرائيلي وموقع الصراع مع الصهاينة والمتصهينة منا؛ “الموضع والموقع” هو الذي يحدد تدبير الزمن وتدبير الالتزام
والمكان حينما يتحدث عنه حمدان برؤية حضارية هو الزمان المتعاقب والبشر المتفاعل، وهناك من الخصوم والأعداء (المتربصين) من يريدون قطع صلتنا بالزمان وتعاقبه وتفريغ روابط البشر بهذا المكان رؤية ورسالة وغاية. المكان يتحدث عن صراع لم يحدث بالصدفة المحضة، ولكن بالتدبير المتعمد ينقض عن نفسه غبار تفكير المؤامرة، ولكن يتحدث عن كيف غفل البشر عن مقتضيات المكان ومتطلباته، عن رسالة المكان وعلاقاته، فلا يتحدث مكتفيا بذلك عن مؤامرات وتدبريات ولكن يتحدث عن غفلة عميقة وتناقل هو أشبه بالمؤامرة على الذات، يتحدث عن قابليات من في المكان للاستعمار أكثر مما يتحدث عن الاستعمار، المكان فُرض علينا في الزمن تحركات وتحديات، ولكن بشر المكان لم يقرأوا زمان مكانهم، أو مكان زمانهم.
المكان يتحدث أن الصراع ومنذ فجر التاريخ يتحدث عن مسئولية قاطنيه، وهو يؤكد أن القضية أو الصراع ليس في صراع الحدود أو الوجود، ولكن يعي أن الصراع صراع الأرض والوجود معا، وحينما يفرط هؤلاء في المكان يلعن المكان أصحابه: “ضيعتني ضيعك الله: أنا مكان الصراع، فهل عرفتم مقتضيات صراع المكان”؟ فماذا عن تدبير المكان والزمان والالتزام..؟
روح المكان تتحدث لنا عن موضعنا من صراع الأمة مع الكيان الصهيوني الإسرائيلي وموقع الصراع مع الصهاينة والمتصهينة منا؛ “الموضع والموقع” هو الذي يحدد تدبير الزمن وتدبير الالتزام.
وحينما كانت عين البشري على الزمان، فلم تره منبت الصلة عن جغرافيته ومكانه أو معطيات تدبيره ومقتضيات التزامه، الالتزام بعبرة الزمان والذكر به. الزمان الميت هو المنظور له كتاريخ حفريات، أما “الزمان الحي” فمكان ومكنون وتدبير والتزام، إنها جميعا ذاكرة حضارية، والذكرى تنفع المؤمنين “وذكرهم بأيام الله”..
تأمل الأحداث، حتى لو كانت هزائم، أمر يولد منه الحكيم حكمة وخيرا.. ليس خطر الهزيمة في أنها تشكل تراجعا عن موقع ما، ولكن خطرها الأشد أنها قد تخلخل الثقة في المسلمات.. وتزعزع الثوابت في العقول والقلوب.. امتلاك الذات هو حصن الأمان، وهو العدة في أي مواجهة..”، قراءة التاريخ وعبرة الزمان بعين الحكيم هي التي تصنع “التاريخ الحافز” الذي يثير في الجماعة حوافز الحركة والتقدم لصياغة مستقبلها.
الماضي والحاضر مبسوطان أمامنا وما نعيه من ماضينا فهو حاضر معنا، أو هو حاضرنا في يومنا هذا. الحاضر وحدة نقطة والنقطة لا اتجاه لها ولا معنى؛ إنما تعرف اتجاهها مما قبلها، أي أن الخط السابق عليها هو ما ينبئ باتجاهها. ومن هنا أهمية “حضور” الماضي وبُدُوِّه في الإطار المعاش لأنه هو ما يرسم السياق ويكشفه.
هذه هي حلقات الزمن وتفاعلها (الذاكرة والواقع والمستقبل) وحضور التاريخ يرتبط ارتباطا وثيقا بالمؤرخ. المؤرخ الحقيقي هو الذي يعيد قراءة تاريخه لصالح حاضر الجماعة الوطنية ومستقبلها. هي قراءة الحكيم الملتزم، قراءة الوزان والميزان، وكيف تتم عملية الوزن والموزون.. إنه القاضي الحكيم الملتزم حينما يقترب من أي مجال، التاريخ كان أو غيره. البشري يحدد ويقرر أن الوعي بالإطار الزماني لنشاط الإنسان له قيمته الحضارية الكبرى، إلى جانب قيمتي الإنسان والمكان. الزمان مسئولية ومحاسبة: “يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله، ولتنظر نفس ما قدمت لغد، واتقوا الله إن الله خبير بما تعلمون” [الحشر: 18].
ومصادرة الزمان هي أول الطريق لمصادرات كثيرة، فها هو الحكيم البشري يلتقي مع حمدان حول المكان في الزمان أو الزمان في المكان.. فـ”كلما اضطربت بي (البشري) ممالك الفهم في الشئون الدولية وغم عليّ فيها أمر، ووجدت ثوابتها تتأرجح، لجأت إلى التاريخ وإلى الجغرافيا.. وكثيرا ما أجد فيهما إجابات مهمة..”. إنه يتحدث عن عبقرية المكان لعالم المسلمين حين رؤية خريطة العالم.. “لأنهم من ناحية الجغرافيا السياسية يشغلون بقعة أرضية تراها على الخريطة مثل الحزام العريض الذي يمسك بخصر العالم القديم كله ويحكمه، ويمتد جنوبا إلى بحار الجنوب ومحيطاته، ويسيطر على غالب شواطئ البحر الأسود ونحو ثلثي شواطئ البحر الأبيض وكل شواطئ البحر الأحمر والخليج، وهي رقعة واحدة ممتدة لا تفصل بينها شعوب أخرى وإن تخللتها..”.
عبقرية المكان يجب أن تتواكب معها عبقرية سكانه أو قاطنيه كحمدان تماما لأن المكان هو عنوان المكان وصورته والكيان في المكان، مكانة وأهمية والمكانة في المكنة، فاعلية وتأثيرا وتمكينا. الاستهداف في حالة “إن أي سياسي من ساسة الغرب في أوروبا وأمريكا، ينظر إلى هذه الخريطة يدرك على الفور أنه يواجه “قوة متحققة”، أو يواجه “قوة ممكنة” (بالإمكان والاحتمال والإمكانية)، تستدعي منه كل أسباب القلق والحذر والحيطة، وأن عليه سياسيا أن يفكك هذا الوجود لينقسم إلى دول ودويلات متنافرة، وأن عليه ثقافيا أن يجعل هذا الوجود ذاهلا عن أمر نفسه غافلا عن ذاته.
ها هو البشري الحكيم يقدم لنا الإجابة، كيف تتم عملية الذهول عن أمر النفس والغفلة عن الذات الحضارية؟!!
إن الإلحاق يتم في الزمان والعصر، ثم يتم بعد ذلك في كل شيء فيصير ماضينا قطيعة وحاضرنا تخلفا، ومستقبلنا لحاقا، وفهم قضايانا عبر الغير ومن خلالهم، والحديث عن همومنا بما تحدده أجندتهم، ونتحدث عن ذواتنا بضمائر الغائب.. إنها جميعا شروط الإلحاق.
يجب أن نصدع مع البشري: “ثمة عقيدة تقتضي الانتماء، وثمة كيان حضاري انبنى عبر السنين وضم في رحابته العديد من المذاهب والمدارس والنظم والقيم، ولا يزال بأصوله وكلياته منفتحا لجديد يصدر عنه. وهو بحسبانه كيانا حضاريا لجماعة ممتدة عبر التاريخ، يشكل هوية وشعورا بالانتماء والتجانس لهذه الجماعة ومميزاتها عن غيرها، ومن ثم فهو الميزان وليس الموزون فيما تأخذ الجماعة وما تدع. وهو معيار الحكم والاختيار، وليس المحكوم ولا المختار”.
من هذا الأصل تتتابع بعض الفروع. إن مجمل هذا الكيان الحضاري لا يعدل عنه في جملته، لأن العدول يفيد فقد الهوية، ولا يعدل عن جزء منه أو أجزاء إن كان ذلك يؤدي إلى خلخلة الهوية. وإن النظر في إصلاحه يكون بمراعاة صلاح الجماعة ونفعها ونهضتها من خلاله، وليس انخلاعا عنه.. لقد وفدت إلينا نظم الغرب وفكره وقيمه باسم المعاصرة، وترادفت مع العصرية. وقامت بها تحت هذا الاسم علاقة التعاقب بينها وبين الموروث الحضاري القائم الذي ترادف -بحكم اللزوم في هذا التصور- مع الرجعية والتخلف، وما يتعين الحذر منه بداءة هو هذا الترادف والتلازم بين الوافد والعصري وبين الموروث والرجعي.
ماذا بعد درس الزمان في معرفة روح المكان وأصول تدبيره وحقيقة التزامه؟ البشرى يعلن منذ البداية التزامه.. “كانت مخاطر التهديد العدواني لسياسات الهيمنة الأمريكية ومخاطر التهديد الصهيوني على بلادنا، كان ذلك من وقائع التمهيد للتقارب بين ذوي المنطلقات المتباينة من المواطنين الحريصين على الذود عن أوطانهم وشعوبهم وثقافاتهم. وكانت القدس وفلسطين ووقائع ما يحدث فيهما وانتفاضات الشعوب من أجل تحريرهما؛ من عوامل التوحيد في المواقف والتقريب في الأهداف والتفاهم في الأفكار..”.
ومن هذا المنطلق الجامع، والتدبير المجمِّع، ينبع التزام البِشرى الحكيم ويُردف رؤاه من التاريخ وعبرته ويسندها بوعي المكان روحا ومكنونا. ها هو يحدثنا عن أيام العرب: 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001 أو 28 أيلول/ سبتمبر عام 2000 (الانتفاضة)، أحداث فلسطين بين الحكومات العربية وحركات الشعوب ممن تتلقى دروسا في هذا الامتحان الفلسطيني.. فلسطين الأمان في العمق..
إن رؤية البشرى الحضارية للصراع العربي الصهيوني (الحضاري والعقدي والمصيري والوجودي) تتضح من جوهر رؤية لقلب الزمان.. “أظن أننا لم يقم ذلك لدينا، نحن الشعوب التي عرفت السيطرة الاستعمارية في تاريخها الحديث. لقد كان مستحيلا على أفريقيي جنوب أفريقيا مثلا أن يتبنوا معايير واحدة للتقويم التاريخي والحضاري تجمعهم مع المستوطنين الأوروبيين في بلادهم. وكان ذلك يستحيل كذلك على مسلمي الجزائر عربا وبربرا إزاء الفرنسيين، كما استحال علينا -نحن العرب- أن نتخذ معايير تضمّنا مع الصهاينة، وكذلك الحال في كل بلادنا”.
هل وعَيْنا درس الحكيم البشري حينما يتحدث عن عبرة الزمان ومكانة المكان وأصول التفكير والتدبير، مناديا من بعيد ومن جوف أحداث التاريخ ملتزما بحق أمته عليه.. أمتي أمتى..؟!! هذا هو زمان ومكان وتدبير والتزام يشكل رؤية حضارية واستراتيجية في صراع الأمة مع الصهيونية وكيانها المزعوم
وكذا القدس تتحدث على لسان الحكيم البشرى فتحدد مكانتها ومصيرية الصراع وحضاريته: “القدس بالنسبة لنا موضوع دين -أو أديان- ووطن وتاريخ وثقافة، هي ماضٍ وحاضر وهي مستقبلنا أيضا. وفلسطين هي وعاء القدس وحاملتها، بل إن القدس هي هوية فلسطين وهي من أعطاها الغالب الأعم من صبغتها وأهميتها.. ليست القدس مدينة في وطن هو فلسطين، ولكن فلسطين وطن في مدينة هي القدس.. هذه القدس، وهذه فلسطين، وهذا هو الصراع…”.
القدس كانت أرض صراع دام قرنين من الزمان من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر الميلادي، وهي الآن أرض صراع استكمل قرنا من الزمان ولم تظهر بعد فواتح انتهائه.. ونحن نعرف أن الصراع القديم والصراع القائم ليس صراعا دينيا حضاريا فقط، ولكن صراعا سياسيا أيضا. ولكننا لا نستطيع أن نغفل الصبغة الدينية له، فالقدس لا يمكن أن تستحيل إلى أنها محض موقع وعاصمة، فهي ليست “برلين” يمكن أن تحل محلها “بون” في الضمير الألماني، وهي ليست “إسطنبول” يمكن أن تحل محلها “أنقرة” في الضمير التركي.. ولكنها القدس بغير بديل. وهي ليست أرضا يستبد شعبها بتقرير المصير بشأنها، ليست كذلك فقط لأننا مسئولون عنها يوم الحساب، مسئولون عنها بوضعنا الديني بعد أن نجوز من الدنيا إلى الآخرة، ومن العالم المشهود إلى عالم الغيب..”.
هل وعَيْنا درس الحكيم البشري حينما يتحدث عن عبرة الزمان ومكانة المكان وأصول التفكير والتدبير، مناديا من بعيد ومن جوف أحداث التاريخ ملتزما بحق أمته عليه.. أمتي أمتى..؟!! هذا هو زمان ومكان وتدبير والتزام يشكل رؤية حضارية واستراتيجية في صراع الأمة مع الصهيونية وكيانها المزعوم.