في هذا المقام ونحن نحدد مفهوم المقاومة، طرأ على ذهني أن مفهوم المقاومة وتوابعه شكل منظومة مهمة ضمن أبنية كثيرة وعلى مستويات متنوعة؛ منها البناء الفيزيائي، والبناء الحيوي العضوي، والبناء الشبكي العصبي والإدراكي.
ولعل ذلك دفعني إلى مراجعة بعض هذه الأبواب لأسترشد بها في النظر والبصر لمفهوم المقاومة، والاستفادة من استخداماته في علوم شتى، وبما يتيح لنا نظم هذه الأجهزة المختلفة وفق معجمها اللغوي ومعانيها القاموسي، حتى نتمكن من رسم صورة غاية في الأهمية في بناء هذا المفهوم من المدخل الفيزيائي والحيوي في علمي الطبيعة والأحياء، وفي علوم أخرى تمتد إلى علوم الحركة الميكانيكية وعلوم الحركة الديناميكية، ومن بعد سننتقل إلى مستوى آخر في الكشف عن مكنون المقاومة الحضارية، وكذلك المقاومة والفعل الانتفاضي. ونكمل بناء ذلك المفهوم من مداخله المتكاملة تلك حول مفهوم الجهاد وارتباطه بالجهد والاجتهاد، “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” (العنكبوت: 69)، ضمن محاولة لرصد التفسير العياني والميداني لآيات الجهاد في القرآن في معركة الطوفان.
والشاهد في هذا الأمر أن منظومة من المعلومات والمفردات والأبنية والوظائف، والأهداف والمقاصد والغايات، تتكافل وتتكامل في تكوين رؤية غاية في الأهمية لمنظومة فكرة المقاومة في البناء الإنساني، “وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ” (الذاريات:21)، وفي تلك المعلومات والمعارف التي يمكن أن تقدمها علوم الطبيعة (الفيزياء) في هذا المقام، خاصة في جانب الوظائف والأدوار التي تقوم بها ضمن أجهزة مكتشفة ومخترعة حركت فكر الإنسان إلى محاكاة النفس البشرية، وهو أمر حدا بنا في هذا المقال الأوليّ أن نمد هذه المحاكاة على امتدادها في مواصلة الاستفادة من البيئة النفسية والإنسانية والبنية الطبيعية ومخترعاتها الإنسانية في استلهام قوانين أساسية في التفعيل والتشغيل لنستفيد من كل ذلك في مقاربة اعتبار واستثمار في سياق البصر في النفس، والتأمل في خلقها وأحوالها، والسير في الأرض والنظر في أحوالها، والهدف الإنساني في تحقيق الفاعلية من خلال الفعل الحضاري، وعمليتي التفعيل والتشغيل.
وفي هذا المقام علينا أن نتوقف أيضا عند هذا المجال المشترك بين عمل الإنسان في الطبيعة ممارسا ما تميز به عن بقية المخلوقات في تعلم الأسماء، وهو أمر صرّف فيه الله سبحانه وتعالى الأمور التي تتعلق بحمل الإنسان “الأمانة الحضارية” والقيام بمهام “الاستخلاف في الأرض”، والذي أمده الله سبحانه من خلال سنّة التسخير وسنّة الهداية إلى كل ما يعينه على تعمير الكون وعمران الدنيا وإقامة الكيان والبنيان في دور الإنسان. ومن ثم فإن ما نقدمه في هذا المقام إنما واحدة من ممارسات القراءة الحضارية في مفهوم المقاومة، النداء الحركي القرآني في مفتتح الرسالة: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)” (العلق).
ونزول هذه الآية الكريمة في بداية الوحي؛ إنما كان مؤذنا وإعلانا تاريخيا بأن درع العلم والمعرفة والمنهج الواقي يقوم بالأساس على التعلم والقراءة المشفوعة بالكتابة (الذي علم بالقلم)، وبأن هذا الدين لا يستقيم به الإنسان إلا إذا عرف ما له وما عليه علما وتعلما فعلا وعملا، ولا يمكن لأي بشري كيفما كان أن يصل إلى مقصوده وهدفه الأسمى عن طريق القراءة.
وربط الله سبحانه العظيم القراءة باسمه إشارة إلى عظمته وقوته سبحانه، باعتباره الخالق لجميع الكائنات التي تتلفظ ألسنتها بالكلمات الناطقة، والتي تقرأ أعينها الكلمات المقروءة؛ أبعاد القراءة وضروراتها في بناء حضارة الأمة، إذ الخطاب الإلهي للنبي صلى الله عليه وسلم؛ إنما هو إبراز أولويات الحياة وجميع مقدماتها الضرورية. فبالعلم تبنى الحياة وتستقيم عودها، وبه يبني الإنسان علاقته بربه على شكل أسس لا تزحزحها رياح ولا يعتدي على صالحيتها وصلاحيتها شكوك ولا اضطراب؛ لذا كان كل شيء في الحياة عنوانه العلم والقراءة، انطلاقا من قول الحق في سورة العلق “اقرأ”، فأعيدت اللفظة مرتين في الآيات، وفي كل مرة تأتي بعدها لفظة “رب” لتؤكد على أصل القراءة التوحيدية.
وهي قراءة محوطة بالمنهج الإلهي والتعلم منه وعليه، والالتزام به، والامتثال له (باسم الله)، وهي قراءة في الخالق الواحد، والمخلوق المتعدد والإنسان المكرم في سياقات تحصيل العلم المستمر “عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ” (العلق: 5)، موصولة بقراءة الكرامة والعزة من الإنسان المكرم، والتعرف على مغزى الأمر بالقراءة من “اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ” (العلق: 3)، والجمع بين كل القراءات النافعة والدافعة والفاعلة، النابعة من قراءة عمرانية وحضارية مؤمنة تستمسك بأصل التوحيد الداعم لقراءة الإيمان في مواجهة أي قراءة سلبية في الاستغناء أو الطغيان: “كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَىٰ، أَن رَّآهُ اسْتَغْنَىٰ” (العلق: 6-7).. تلك القراءات التي تفعل حركة الإنسان الكبرى مسترشدة بالقراءة بمنهج الله (باسم الله) فتتورط في قراءة الطغيان، أو قراءة الاستغناء وما يترتب على ذلك من فعل استكبار أو فعل استغناء وامتلاء.
إن القراءة المفعمة بالهدى والمسددة بالتقوى هي أساس قراءة الهدي والهداية لا قراءة الغواية والهوى، القراءة المتصلة بالتوحيد والقراءة المنفصلة عنه حتى يصل بها الأمر إلى رؤية تستهين بالإيمان من خلال فعل الاستغناء والطغيان: “أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَىٰ، عَبْدًا إِذَا صَلَّىٰ” (العلق: 9-10).. إن فعله المستغني جعله يمارس الكذب والافتراء والمروق، “كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ” (العلق: 13)، ذلك الذي يتغافل عن الحقيقة الإيمانية التأسيسية، “إِنَّ إِلَىٰ رَبِّكَ الرُّجْعَىٰ” (العلق: 8)، لا يتصرف بمقتضى القراءة المهتدية وإنما يمارس القراءة الطاغية المعتدية، فيتحلل من أصول المبادئ والقيم وينهض ليكسر كل المعايير ويبدد كل الموازين، ويهمل كل أصول المسؤولية والمساءلة (ألم يعلم بأن الله يرى) ولا يتصور أنه ذات يوم سيقع تحت ميزان الحساب وسيف العقاب “كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَة، نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ” (العلق: 15-16)، ويومئذ لا تفيده تلك القراءة الطاغية الظالمة ولا الفعل المستغني المستقوي على غيره، “فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ، سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ” (العلق: 17 -18).. بتلك القراءة الداعية الواعية يحذرنا الله سبحانه وتعالى من الخضوع لأي أشكال قراءة أو فعل الطغيان، وأن عليه أن يستمسك بقراءة الإيمان، “كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب” (العلق: 19)، فلا طاعة لطغيان بل هي قراءة السجود والطاعة والاقتراب والإيمان.
بين هاتين القراءتين، قراءة الطغيان والاستغناء من جانب، وقراءة الهداية والإيمان من جانب آخر، خرجت المقاومة لتمثل القراءة المهتدية بالإيمان والمقاومة للظلم والطغيان. وكانت عملية طوفان الأقصى معركة حقيقية في الميدان، بين هاتين القراءتين؛ رافضة أي خنوع أو إذعان، حاملة لواء قراءة الفعل العزة والكرامة، وتكريم الإنسان. بدت هذه المعركة تؤكد أن فعل المحتل الغاصب القائم على العدوان وإخضاع الأوطان والإنسان، والذي مارس فعل الظلم المؤذن بخراب العمران، والاستهانة بروح الإنسان، ولا بد أن تتم مواجهة كل هذا الطغيان بالمقاومة المسكونة بالإيمان، رغم أن ميزان القوى في مصلحة العدو والعدوان، ولكن الحساب المقاوم كان يستند إلى معادلة أخرى مع اختلال الميزان أن يواجه هذا الطغيان بالفعل الساجد والاقتراب المفعم بالإيمان وفق التوجيه والتنبيه القرآني: “كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب” (العلق: 19).
وهذا ما سنؤكده في حزمة من المقالات حول مفهوم المقاومة الذي يتأسس على ميزان الإيمان الصادق، لا غطرسة الطغيان ولا فعل العدوان، فكانت الكلمة للمقاومة في الميدان.