المعهد المصري للدراسات – تاريخ النشر: فبراير/شباط 2018

اعتبارات المكان وخرائط الإمكانية وصناعة المكانة على طريق التمكين يمكن أن تكون عناصر استراتيجية متعددة الأركان والزوايا وإعمال الفهم لخرائط الحال والمآل الواقع والاستقبال، ضمن مستويات للفهم تتداخل وتتواقف وتتراتب وتتداخل .

الفرضية الرمادية في الحالة التركية:

من الواضح أن تركيا تشكل بتاريخها وجغرافيتها حالة فريدة لا يمكننا فيها الوقوف عند مواقف حدية أو سياسات جامدة أو مواقف لا يطولها التغير أو التغيير، ومن ثم كان من المهم أن نصف تلك الحالة موقفًا وذاكرة وحركة بأنه تحكمها الفرضية الرمادية، والتي تتخذ ضمن هذا المدخل رؤية ثلاثية الأبعاد تتجسم فيها الحالة التركية المركبة، والتي يمكن من خلالها أن نتفهم شأن التحولات والتغيرات التي تحيط بتلك الحالة وتعين على تفسير الخبرة التركية المعاصرة .

البعد الأول ضمن هذه الفرضية تحكمه الجغرافيا: تركيا بعاصمتها الثانية إسطنبول تشكل حالة فريدة، إسطنبول بامتدادها يقع بعضها في آسيا وبعضها الآخر في أوروبا، وهو ما قد يسهم الى حد كبير في تفسير حقيقة ذلك التراوح الذي نراه بين الاتجاه شرقًا والاتجاه غربًا، وتأتي الحكومات المتعاقبة باختلاف توجهاتها وبنياتها ليحمل بعضها سياسة حادة فتتجه إلى الغرب، وتأتي أخرى في المقابل فتمثل موقفا أحاديا أو حديًا في الجانب الآخر بالاتجاه إلى الشرق .

ولكن الجغرافيا في حقيقة الأمر تؤكد هذه الحقيقة الجيوسياسية؛ تلك الرؤية الجامعة ممثلة في إسطنبول التي تمثل جمعًا وامتدادًا جغرافيا بين أوربا وآسيا، بما تفرض معطىً أساسيًا يعبر عن ضرورة ذلك التوجه المزدوج والمتزاوج وربما المتوازن نحو الغرب أو الشرق .

فهل يمكن أن تكون هناك سياسة حقيقية لتركيا تتواءم فيها الاتجاه نحو الشرق والغرب معا؟، كان ذلك هو التساؤل المعضلة وكان من المهم أن تحمل إرهاصات إجابة، فلا هي يمكنها إعطاء الظهر إلى أوروبا والغرب، ولا هي يمكن أن تفقد عمقها في الشرق، بل هي يجب أن تأخذ في حسبانها باعتبارها دولة متوسطية ودولة “شرق أوسطية” هذه الوضعية الجغرافية وذلك المعطى الجيو- سياسي، والتي يمكنها بحكم هذا الموقع الجغرافي أن تتحرك ضمن دوائر تتعلق بمجالاتها الحيوية سواء في حركتها السياسية أو في امتدادها الاقتصادي في علاقات اقتصادية واسعة، قد تقطع الطريق طويلاً حتى تصل إلى قلب أفريقيا وتذهب في عمقها حتى تصل إلى أطراف القارة الأسيوية، وتنظر مستشرفة علاقات مع أوروبا، حتى صار دخول الاتحاد الأوروبي أحد أهم المطالب شبه الثابتة في السياسة الخارجية التركية .

إنه درس الجغرافيا تحاول حكومة ورئاسة أردوغان الحالية أن تستوعبه في إطار ما يمكن أن يسمى العمق الاستراتيجي الذي تمثله النافذة الجغرافية والعمق الحضاري الضارب بجذوره في الرصيد الحضاري الإسلامي والحقبة العثمانية، والعمق الاقتصادي المحكوم بتبادل المنافع والمصالح، الجغرافيا بمعطياتها يمكن أن تدلي بدلوها في بناء خريطة لسياسات متوازنة، فلا هؤلاء الذين يريدون أن ينتموا إلى الغرب ويلقون بأنفسهم في قلب الثقافة الغربية فيشكلون جزءًا منها ويتماهون معها، فيجعلون من الاتجاه غربًا سياسة تتبنى وبلسمًا شافيا لكل إشكالات ومشكلات تركيا، فبالنسبة لهم ليس لهم من طريق سوى أن يكونوا قاصدين أوروبا بوصلة وقبلة، وفي المقابل ليس أيضا من المنطقي أن يتطرف أحدهم أو من يمثل  تيارا آخرا في المواجهة ليتبنى سياسة تتعلق بالاتجاه شرقا، ليدير ظهره إلى الغرب، الحالة التركية استنادا الى هذا لا تستطيع أن تتجاهل  جغرافيا الغرب الذي تعيش فيه ولا جغرافيا الشرق التي تطل عليها، ومن هنا برزت سياسة تتعلق باستيعاب العمق المركب استراتيجيا وحضاريا واقتصاديا فيتجه شرقا وغربا وربما جنوبا، حيث يرتاد أسواق أفريقيا المهملة أو المغفلة من دول كثيرة أقرب من حيث الجغرافيا وأوثق من حيث العلاقة، والتي تبدو أرضا قابلة للاستثمار وللاتجار وبما تمثله ساحة حيوية لتأمين متوالية من المصالح التركية استراتيجيا وأمنيا واقتصاديا (لاحظ زيارة “أردوغان” الأخيرة الى أفريقيا) .

أما البعد الثاني في تلك الفرضية الرمادية فإنه يقع في قلب التاريخ، بين الامتداد الإمبراطوري الذي تمثله الإمبراطورية العثمانية وبين “القومية التركية” والحفاظ على “تركيا النواة” ضمن الرؤية الأتاتوركية والتي تتحرى معنى القومية التركية، هذا الأمر لا يزال مؤثرا في الخيارات الاستراتيجية التركية، وهو ما حدا بالبعض أن يتحدث عن العثمانية الجديدة وما أدى بالبعض الآخر إلى أن يتحدث عن القومية التركية العتيدة، بين هذا وذاك تقع الخيارات التركية في افتراض توازن أخر من خلال الجمع المتفاعل، بين بعد الامتداد الامبراطوري في الاهتمام وبين بعد الاعتزاز بالقومية التركية كنواة صلبة يجب أن ترتكز عليها الأمة التركية، تبدو هذه الأمور متداخلة مع الاعتبار الجغرافي السابق خاصة حينما نجد الاعتزاز بالتاريخ العثماني في قلب الذاكرة الحضارية التركية والاعتزاز في ذات الوقت بالقومية التركية، بين الامتداد الذي يشكل أفقا للحركة وانفتاحا يتعدى الوجود والحدود، وبين الانكفاء على الجمهورية التركية، تبدو تلك السياسات في حاجة إلى عملية لتحدد طاقات تركيا في الامتداد والاهتمام بحكم الجغرافيا وبما تشكل مجالا حيويا يمتد في دوائر الاهتمام في سياسة تركيا الإقليمية والخارجية في التاريخ، ومنصة الجمهورية التركية التي تشكل قاعدة يجب  حمايتها والانطلاق منها .

هذا التوازن إنما يجعل الأمر الذي يتعلق بخطاب قد يروق للبعض عن الخلافة العثمانية أو السلطنة العثمانية فيتساهلون في تشبيه أردوغان تارة بالسلطان وتارة بالخليفة إنما يستغرقون في تلك التصنيفات الحدية غير عابئين بمعطيات ومقتضيات تلك الرؤية الجامعة وترفع التناقض الذي تستند اليه بعض الرؤى القاصرة والمقتصرة على بعد دون آخر، فإن الخبرة العثمانية قد أدت بالاستراتيجية التركية للتجميع والجامعية، فالجمع بين الأمرين أولى إذا كان له من وجه أومن سعة وأفق، وهو الحاكم في الحالة التركية ليعبر عن أن تركيا لا يمكنها أن تنعزل ولا يمكنها في الاهتمام أن تنحسر داخل حدود تركيا .

الجغرافيا والتاريخ تملي تلك الدروس والمعطيات التي تشكل المواقف والسياسات والاستراتيجيات من غير عناء كبير، ومن ثم يظل الأمر الذي يتعلق بالجمع بين الأمرين حالة مواتية تستوعب وتتفهم إمكانات الجمع بينهما مستثمرة  كل أمر فيما يتعلق في بناء استراتيجية متسعة الاهتمام ومرتكزة في ذات الوقت على منصة الجمهورية التركية التي تشكل نواة صلبة حرص مشروع أتاتورك على أن يؤكد على تلك المقولة، وهذا الاعتبار لا يزال يعاني من أمور كثيرة لا بد من وضعها في الحسبان، أمور تتعلق بالهاجس العثماني الذي لا يزال مؤثرًا في التوجهات الأوربية التركية حيال تركيا، حتى أن البعض في منظومة الاتحاد الأوربي ومنذ زمن ليس بالقصير ما زال يستند في رفض دخول تركيا إلى الاتحاد الأوربي باعتباره “ناديًا مسيحيًا” استنادًا إلى مقولة رددها “فاليري جيسكار ديستان” الرئيس الأسبق لفرنسا، فلا تركيا تستطيع أن تنعزل ولا يمكنها أن تستند في حركتها إلى ذلك التاريخ الإمبراطوري، ولكنها تحول التاريخ الإمبراطوري لحركة متوازنة وتؤكد أن تركيا القوية جمهورية ومكانة لا تزال هي القاعدة التي يمكن أن تنطلق منها في حركتها وفي عمقها المركب حضاريًا واستراتيجيًا وثقافيًا واقتصاديًا .

أما البعد الثالث فإنه ينطلق إلى فرضية أخرى تتعلق بالثقافة والحضارة في بعد فكري وديني يتعلق بطابعها وهويتها الإسلامية وكذلك بخبرتها الأتاتوركية الكمالية العلمانية ويظل الاقتصار على أحدهما أو الصراع فيما بينهما هو بالخصم من التجربة التركية والقدرة على بناء المكانة وصناعتها، فلا الخبرة العلمانية استطاعت أن تقصي خبرة الهوية التركية الإسلامية وذاكرتها والتي ما وجدت لها متنفسًا حتى تحركت بنشاط وكان لها من التأثير والفاعلية واستردت تركيا وجهًا إسلاميًا لا يمكن أن يغيب أو يٌغيب .

إلا أن ذلك لا يعني بأي حال من الأحوال نفي تلك الخبرة العلمانية التي ارتبطت بالتجربة الكمالية في تركيا، ولكن الأمر قد يعني جمعًا جدليًا وفريدًا ما بين الخبرتين وهو ما أدى بأردوغان وحزبه ألا يتنكر لهذه الخبرة العلمانية محاولين ترشيدها في إطار أشير فيه إلى صيغة “العلمانية الإيجابية”، بين هذا وذاك يبدو ذلك الجدل بين الهوية الإسلامية والخبرة الكمالية العلمانية، وربما أن هذا ما حدا بأردوغان وصحبه أن يشكلوا منطقة يمكن الجمع فيها بين هذا وذاك في رؤية لا تستثني فيه العلمانية أو تقصي الهوية الإسلامية أو تنفيها .

هذه الفرضية الرمادية ذات الأبعاد الثلاثية مع إدراك فذ من حزب العدالة والتنمية والمتحالفين معه والتوجهات المختلفة التي استوعبها من توجهات ليبرالية وقومية ومن توجهات تجمع بين الهوية الإسلامية والعلمانية الإيجابية مما أدى إلى استثمار هذه الحالة الجامعة بين ثنائيات كانت افتراضًا متصارعة إلى ثنائيات قابلة للتعايش في إطار يجمع بين أبعاد هذه الثلاثية في ثنائياتها المختلفة إلى حالة تنوع مركب تثري تلك الخبرة التركية .

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *