اللغة المحققة يمكن أن تكون مقدسة حينما ترتبط بنص مركزي مقدس له أتباع يأخذونه كمصدر لمعرفتهم، وأحكام حياتهم، أو إطار لسلوكهم.. العربية التي بها نزل وكتب القرآن الكريم هي لغة مقدسة، قال تعالى: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنا عَرَبِياّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” (يوسف: 2)، وقال تعالى: “بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ” (الشعراء: 195)، وقال سبحانه: “قُرْآنا عَرَبِياّ غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ” (الزمر: 28). ولكن المهم أن الوضع بمعنى جعل الألفاظ بإزاء المعاني أمر لا بد منه حتى يتم التفاهم بين البشر، وذلك أن المتكلم يقوم بنقل المعاني التي قامت في ذهنه إلى السامع الذي يحمل هذه الألفاظ على مقابلها من المعاني التي سبق للواضع أن تواضع عليها، وبذلك الحمل من السامع تتم الوظيفة الثانية للغة، وهي وظيفة التلقي.

اللغة المشدودة إلى نص مرجعي تكون وعاء قادرا على انطلاق الفكر بكل جوانبه، وإعمال العقل ليبقى الإنسان إنسانا يقوم بواجبه من عبادة الله، وعمارة الأرض، وتزكية النفس.. هذا التغير يجب ألا يمس ثوابت البشر، وأن يكون في سعته متسقا مع سنن الله في كونه “سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق” (فصلت: 53).

وَقالَ شَيخُ الإسلامِ ابنُ تَيمِيَّةَ رَحِمَهُ اللهُ: اعلم أنَّ اعتِيادَ اللُّغَةِ يُؤثِّرُ في العقْلِ والخُلُقِ والدِّينِ تَأثِيرا قَويِّا بَيِّنا، ويُؤَثِّرُ أَيضَا فِي مُشَابَهةِ صَدْرِ هذهِ الأمَّةِ مِنْ الصَّحَابَةِ والتَّابِعينَ، ومُشَابَهَتُهُم تَزِيدُ العَقلَ والدَّينَ والخُلُقَ، والُّلغَةُ العَرَبِيَّةُ مِنْ الدِّينِ، وَمَعرِفَتُها فَرضٌ واجِبٌ، فإنَّ فَهمَ الكتَابِ والسنَّةِ فَرضٌ، ولا يُفهمانِ إلّا بِفَهمِ الُّلغَةِ العَرَبِيَّةِ، ومَا لا يَتِمُّ الوَاجِبُ إلاَّ بِهِ فَهو واجِبٌ. إنها اللغة الحية الفاعلة؛ المتدبرة الواعية؛ الدافعة للأمة الرافعة.

ودلالات الألفاظ جعلتهم يتدبرون ويحركون بالاشتقاق وغيره من مسلك قضية “الجذور اللغوية” التي هي موجودة في المعاجم، لبناء النظام الصرفي الذي يُخرِج من هذه الجذور الفعلَ الماضي، والمضارع والأمر، واسم الفاعل واسم المفعول، والمصدر، والصفة المشبّهة، واسمي المكان والزمان.. وسائر أنواع التصاريف اللغوية التي تُستعمل في مواطن شتى.. وجذرُ كل شيء أصله، والجذرُ أصل اللسان، وأصل الذكر، وأصل كل شيء؛ هو استحداث كلمة وأخذها من كلمة أخرى للتعبير بها عن معنى جديد يناسب المعنى الأصلي للكلمة أو عن معنى قالبي جديد للمعنى الحرفي مع تشابه الكلمتين في الأحرف الأصلية وترتيبها.

كثيرا ما نرى أن معظم الكلمات يمكننا أن نشتق منها أكثر من كلمة، كما نكتشف أنها ذات أصل واحد، ولها معنى تشترك فيه، وهنا تأتي وظيفة الاشتقاق في اللغة، حيث أنه بواسطته نتعرّف على مفردات اللغة التي تضيف الثروة اللغوية القيمة، وما أبدعته وتركته لنا ولأجيالنا من كنز لغوي. فاللغة العربية بدأت ثرية وبقيت كذلك، وثروتها في زيادة مستمرة، وسبب ذلك ما تمتلكه اللغة العربية من أساليب بلاغية وقواعد نحوية ومفردات تنفرد بها عن غيرها من اللغات، كالاشتقاق والذي يزيد لغتنا قيمة، ويساعد في توليد ألفاظ جديدة، فلولا الحاجة الملحّة إليه، لمَا تطرّق إليه علماؤنا في اللغة، وما أفردوا له مؤلفات كثيرة خاصة به..

إذا كانت العلة التي من أجلها وُجدت اللغة هي أداءَ الفهم المتبادل بين المتخاطبين بها، وضمان التواصل القويم والاتصال المكين؛ فإن هذه الغاية تلزمها أن تتموضع في جميع مسالكها لتحقيق تكامل الدلالة، ولهذا وجب أن يوضع لكل لفظ معنى يعبر عنه؛ لتتألف لدينا مفردات تعتبر مرتكزات أو وحدات لغوية، تكون هي أساس نشأة اللغة، وهي أيضا الأكثر تعبيرا عن ملاءمة حاجات الإنسان، التي يحاول التعبير عنها للطرف الآخر.

ودخول المستجدات على عالمه يدعو الإنسان إلى البحث عن كيفيات في اللغة تُعِينه على التعبير عن هذه الأشياء بصورة كاملة وواضحة. فقد احتاج إلى الزيادة على أصول مفردات النشأة اللغوية، فدأب على وضع وسائل لذلك، فكان الاشتقاق، والتركيب، والترادف، والمشترك وغيرها.

الاشتقاق لغة: اشتق الكلمة من الكلمة؛ أخرجها منها، واصطلاحا: أخذ كلمة أو أكثر من كلمة أخرى.

تتجلى فوائد الاشتقاق في اللغة في أنّه يمد لغتنا العربية بنهر من الألفاظ، والتي من خلالها نقوم بأخذ ألفاظ جديدة، تعبّر بعد ذلك عن معنى جديد، مما يساعد على الاستحداث والتوليد في الألفاظ، بالإضافة إلى أنه وسيلة من وسائل التنويع في الألفاظ للدلالة على المعاني المختلفة.

إن من أعظم الجذور اللغوية الأصيلة؛ الجذر الثلاثي “قوم” الذي يشير إلى أسرة كلمات وعائلة من المفاهيم تجتمع في أشكال عدة بالاشتقاق في أصل المبني، وتتحرك صوب تنوع المعنى المتصل بالروح الواحدة لتشكل في مجموع اشتقاقاتها مباني ومعاني المغزى الأكبر الجامع لحركة الجذر وحركاته وتحريكاته؛ هذا الجذر “قوم” بتوليداته واشتقاقاته واستخداماته في السياقات القرآنية، فتضفي عليه من مبان ومعان ومغازٍ بهاء قرآنيا وعطاء فياضا لا مثيل له؛ هذا الجذر الذي يشير إلى معاني الحركة القاصدة الهادفة المرتبطة بالقيام المشفوع بالنية للفعل والعمل والقصد؛ بالهمة والعزم؛ بالقدرة والفاعلية.

المقاومة في هذا الاعتبار “قيام” و”قوام” و”مقام” و”قيمومية” و”قيمة”. المقاومة تتعلق بالمعنى التوحيدي؛ فمن الجذر اللغوي “قوم” كانت “الاستقامة”: “فاستقم كما أُمرت”. المقاومة مفاعلة وهي من جملة إقامة سنة المدافعة، وهي ترتبط بالقيامة واليوم الآخر.. المحرك الدائم لإنسان المقاومة نصر أو استشهاد، إنه الطريق القويم المستقيم.. ترتبط بـ”الدين القيم”، “دينا قيما”، “دين القيمة”.. المقاوم قائما قيما؛ مقيما حيث أقيم في أمته، إنه جذر “قوم” الذى يحرك كل قيمة وكل عمل قيم وقائم.

المقاومة فعل الأمة وفاعليتها وقدرات تمكينها.. هل تعلمنا درس المقاومة من خبراتها المتعددة على مر التاريخ والتي استطاعت أن ترد العدوان وأن تحمى شرف الأمة وكرامتها؟ أم أن البعض لم يعد يعرف لمعاني الشرف والكرامة والعزة معنى؟ إنها المقاومة، لا مساومة من أرباب السياسة القذرة وواقعيتها الواهنة التي في حقيقتها ليست إلا سقوطا واهنا ووقوعا لا واقعية، ولا مقاولة للمنتفعين من هذه السياسات في الحفاظ على كراسيهم، شاهت وجوهم؛ ساء ما يفعلون.

المقاومة تصدع كل يوم بأن “المقاومة خيار وقرار استراتيجي”، فكتبت هذه المقاومة صفحات، الصفحة تلو الصفحة في سياق يؤشر على “بلاغة هذه المقاومة وبيانها” على الأرض تقدم فاعليتها في مواجهة العدوان والاحتلال على الأمة وحياضها. “المقاومة عملية حضارية واستراتيجية ممتدة”، وخيار لا بد أن يتحول إلى إصرار، وإصرار يجب أن يتحول إلى قرار واختيار، بل هو ضرورة تتعلق بالكيان والوجود.

مقاومة الأمة فعلها الحامي لكيانها، الضامن لفعاليتها، القادر على حفظ بقائها واستمرارها. المقاومة حالة شاملة متكاملة يتكافل فيها عناصر مقاومة الاستبداد في الداخل ومقاومة العدوان من الخارج، هي حال خمائر عزتها وقدرات الممانعة والمناعة الحضارية. ليس هذا فائض كلام وإنما هي بلاغة المقاومة حينما تبلغ بيانها، وتفعل فعلها على الأرض فتقدم انتصارات مهمة؛ تعنى ضمن ما تعني أن هذه الأمة تستعصي على الموت كما تستعصي على الاحتواء، وأن عناصر ممانعتها هي حقيقة مناعتها وحصانتها، والصمود هو عين الانتصار.

المقاومة تعي أن المفاهيم ليست فحسب إدراكات وتصورات، ولكنها تحفر في الأرض بالأفعال والأعمال.. المفاهيم تُبنى على الأرض؛ وتفرض نفسها على الكافة حتى من منكريها أو أعدائها.. المقاومة عملية معرفية وثقافية وفكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية شاملة؛ حضارية في محتواها، وحضارية في مقاصدها تملك عناصر تمكينها من المفاهيم الحرة التي تشكل أساس خطابها للأمة “مفاهيم الحرية والتحرر والمقاومة”، في مواجهة مفاهيم “العدو والعدوان والعبودية والاستسلام”، وفي مواجهة المحتل الغاصب والاستيطان الفاجر..

هذه أولى معاركنا المفاهيم والكلمات كالحياض وكالجيوش، وجب الدفاع عنها كالأرض والعرض، لأنها تنتهك في حرماتها، وتدنس معانيها. وانتهاك حرمة معاني الكلمات لا يأتي فقط من معتد من خارج يحاول أن ينحرف بالمعاني ويدلس الدلالات، فتصير الكلمات لا تدل أو ترشد، بل قد تأتي كذلك من داخل حيث تهون فيه الكلمات وتهان..

أين نحن من كلمات الكرامة، وعقلية العزة ونفسية الأحرار؟ أين مقامنا من كلماتنا، ومقام كلماتنا فينا؟ أين نحن كذلك من أيامنا (أيام العرب والمسلمين)، أيام المقاومة؟