المدرسة الخلدونية

مقياس الفساد بين اختزالية مقياس منظمة الشفافية الدولية وسعة مقياس المدرسة الخلدونية.
إن القراءة في هذه الجهود تجعلنا نتوقف عند الرابطة بين هذه الجهود المختلفة والمتنوعة في إطار النشاط العالمي
لمواجهة الفساد وما يمكن أن تتركه من آثار على تصور مقاييس ظاهرة الفساد، وهذه الجهود وارتباطها بعناصر
اقتصادية محضة لتهيئة الدول لممارسة خصخصة اقتصادها، ومن ثم فتبدو تلك الجهود الدولية ضمن منظومة
عالمية. ورغم أن الفساد قضية هي بالأساس تتعلق بدواخل الدول دون أن نهمل طابعها الخارجي والدولي، إلا أن
عولمة الاهتمام بقضية الفساد تتجلي في أكثر من جانب:


1. أنه تم ربط ذلك بسياسات اقتصادية بعينها ضمن نشاطات الخصخصة في الداخل وسياسات تحرير
التجارة العالمية على المستوى الدولي.

2. أنه تم الحديث عن الفساد ضمن إطار منظومة القيم الغربية والتي ترتبط بعملية التحول الديمقراطي.
وفي هذا المقام، صار الحديث عن حسن الحكم أو الحكم الجيد Good Governance و المساءلة أو المحاسبية Accountability والشفافية Transparency .

3. أن ذلك أشار -ضمن مفهوم العولمة- وبعد سلسلة من المؤتمرات العالمية شاركت فيها الحكومات والمنظمات
غير الحكومية حول )البيئة، حقوق الإنسان، السكان، المرأة، التنمية الاجتماعية، المدن …الخ(، أشار إلى
ما يمكن تسميته بصناعة الأجندة. إن نظرة إلى مؤتمر جنوب أفريقيا عن “النزاهة الد ولية” يشير إلى ذلك
صراحة في إطار استراتيجية دولية لمقاومة الفساد، ونظرة على محاور المؤتمر تؤكد هذه المعاني؛ أي التركيز
على البعد الدولي في إطار متغيرات العولمة، وأجندة تفرضها العولمة في هذا المقام.

4. أن التأكيد على الجانب الضيق في مكافحة الفساد )ضيق المجال وضيق الهدف أو الفرص( إنما يعبر عن
مصلحة الدول القوية المتحكمة في النظام الاقتصادي الدولي، ومن ثم بدا ما يكن تسميته بهذه المكافحة،
وصارت منظمة الشفافية الدولية ذات نشاط واسع النطاق خاصة في إطار (البحوث والربط بشبكة دولية للمعلومات تتوافر عن الفساد …)، والنظر الخاطف على ما ضمناه هذا البحث من ملاحق يشير إلى الدور
المحوري الذي تلعبه هذه المنظمة ضمن صناعة أجندة مكافحة الفساد.

5. أنه من المهم أن نشير إلى مقاييس الفساد الواردة ضمن أنشطة المنظمة الدولية للشفافية، فإن هذه
المقاييس ووفق عناصر التضييق في فهم الفساد تمارس مصالح ترتبط بالأنشطة المتعلقة بالسوق والمجال
الاقتصادي، ومن هنا فإن مقاييس الفساد قد بنيت على أساس من عينة تتعلق بأعمال “البيزنس”)!( وهو
أمر نظن أنه معيب من الناحية المنهجية، فالأغراض المتعلقة بصناعة الرؤية واضحة. وما يؤكد أن إهمال
الإصلاح الشامل والمجتمعي في قبالة الفساد الشامل أمر ليس موضع اهتمام مثل هذه المؤسسات المختلفة.

6. مؤسسات مثل الصندوق الدولي أو البنك الدولي، والتي روجت لنمط اقتصاد معين ومسار مرغوبات عملية
التنمية، يحرك معاني معينة للإصلاح الاقتصادي، وهو بالتالي يتحرك صوب معان معينة للفساد ترتبط بهذا الجانب، وربما لا تتعداه. فضلا عن أن هذه المؤسسات التى تقود برامج التكيف الهيكلي، وفي نطاق تحرير التجارة الدولية، وإعداد المنظومة العالمية للتحول إلى سوق كبير إنما يعبر عن قسمة ضيزى في هذا
المقام، فإن النظر إلى التكوينات الشائهة للنظام الاقتص ادي الدولي وسلسلة معادلاته الظالمة التي تحكم
العلاقات فيه، إنما تعبر عن معنى “فساد دولي” يشير إلى أكثر من مؤشر دال على الاختلالات الهيكلية داخل
هذا النظام الاقتصادي الدولي، وتحل معاني الطغيان ومجاوزة الحد لمجموعة من الدول القوية )الدول
الصناعية الكبرى( والتي تشكل إعادة صياغة المنظومة الدولية مبقية على تلك التشوهات الهيكلية
والمعادلات الشائهة ).