
نشر المقال في جريدة الشروق المصرية بتاريخ: 9 مارس 2013
جميعنا يعرف مرض «الزهايمر» الذى حمل اسم مكتشفه أو مرض (النسيان) كما يحلو للكثير تسميته، هذا المرض الذى يصيب المتقدمين فى السن ما زال الأطباء إلى يومنا هذا يبحثون له عن علاج، لم يكن يعرف الطبيب الألمانى لويس الزهايمر انه سيكتشف ذات يوم أحد أخطر الأمراض التى تصيب الجهاز العصبى لتدمر الخلايا العصبية المسئولة عن الذاكرة فى المخ.
عندما يتمّ العبث بوقائع التاريخ تمريرا أو تبديلا أو تحريفا، أو تناقض المواقف ونسخها لبعضها البعض، فإن الأمم يصيبها ما يصيب الأفراد من أمراض الذاكرة والوعى والانتباه؛ والذى من دلائله وشواهده غياب الذاكرة أو ضعفها والتوهان واضطراب الحُكم على الأشياء، نظرة فاحصة فى واقعنا السياسى تجعلك تكتشف تفشِّى هذا المرض «الزهايمر» فى سطور بعض السياسيين وفى عقولهم وفى خطابهم وسلوكهم؛ العقل السياسى بلغ مبلغا من الشيخوخة ما يستدعى مراجعة كل منابع شرايينه الرئيسية سياسيا وتنظيف سراديبه التاريخية.
يقصد بمعضلة الزهايمر فى السياسة أساسا أنها خرف يطغى على النظام السياسى بكل مكوناته سلطة ومعارضة وقوى سياسية، فالإصابة بالزهايمر السياسى تبدأ أعراضه بالتخبط فى القرارات والتصريحات السياسية التى يطلقها البعض من السياسيين ليعودوا ويقفوا بأنفسهم بوجه هذه التصريحات أو المواقف التى اتخذوها، والرموز السياسية التى تحسب فى خانة الحصافة يحسب لها الناس أنها مؤتمنة على تاريخ هذا البلد تنسى تاريخها القريب فكيف تحفظ تاريخنا البعيد.
إن المطلع على تاريخ السياسيين عموما، يراهم فى مرحلة الانتخابات أو عند الحاجة لدعم الناس يغدقون الوعود بالصلاح والإصلاح وتغيير الواقع، ولكن هذه الوعود غالبا ما تتبخر وتضيع فى ازدحام أروقة السياسة، أو إنها تنسى أو تُتناسى أو هو نوع من «الزهايمر السياسى» يصاب به السياسيون عند تسلم السلطة.
بعد هذا الاستعراض لظاهرة الزهايمر السياسى والدخول إلى المشهد الذى يرتبط بالمعارضة فى تكويناتها خاصة جبهة الإنقاذ، والسلطة فى تكويناتها خاصة الرئاسة والقوى السياسية التى تحملها، والمؤسسات المختلفة التى تمثل فواعل فى الدولة المصرية بعد الثورة يبدو غالب هؤلاء يعانون من زهايمر مركب وصمم سياسى مؤكد.
وفى هذا المقام نرى مؤسسة الرئاسة مثلت حالة دالة فى هذا المقام بفائض الوعود والعهود، خاصة تلك التى توثقت مع «الجبهة الوطنية» فيما سمى بتوافق «فيرمونت» بنقاطه الست، ورغم ذلك بدا للبعض أن يتحدث عن جبهات أخرى لتستنسخ تجربة للأسف الشديد أفشلها ذلك الزهايمر السياسى المصحوب بصمم سياسى.
وكذلك يتعلق الأمر بزهايمر القرارات التى تصدر عن مؤسسة الرئاسة فى كل مرة تصدر وفى كل مرة يُتراجع عنها، وفى كل مرة يطالب بعد كل قرار القيام بحوار، نحاكى الأخطاء تلو الأخطاء فى إطار يعكس فى حقيقة الأمر حال من الزهايمر السياسى.
وكذلك هناك زهايمر التعامل مع المحكمة الدستورية، لنجعل الشأن السياسى فى ساحات المحاكم ونمارس كل ما من شأنه أن نعود بممارسته السياسية إلى ساحات المحكمة الدستورية وفى كل مرة كان هذا الزهايمر متمثلا فى أحكام تعيد الأمور إلى النقطة الأولى والتى تجعل من ضرورة أن نتعلم من مسار الأحداث أن نتجنب ارتكاب ذات الأخطاء فى إطار من الزهايمر المركب.
وفى إطار من زهايمر الدستور كصياغات تشكل المجتمع وإمكانات بناء مساراته السياسية يبدو الدستور عملية مهمة لا تقترن بعمليات تمرير فى استفتاء، لكنها ترتبط بعمليات تفعيل بأرض الواقع ومن هنا يبدو هذا الزهايمر الدستورى بعدم متابعته فى مساراته المتنوعة من التعديل والتأويل والتفعيل.
وهذا زهايمر جماعة الإخوان وحزبها المتمثل فى الحرية والعدالة حينما أعلنوا بأعلى صوت أنهم سيتبعون مبدأ المشاركة لا حالة المغالبة ثم دخلوا ومن كل طريق إلى باب الغلبة والتغلب والاستحواذ والاحتكار، وهاهم يمارسون هذا الزهايمر الذى يتعلق بالترشح لانتخابات الرئاسة بعد أن أكدوا أنهم لن يقدمون مرشحا من داخلهم وها هم يمارسون فى الحكم أقصى درجات التبرير بعد أن كانوا يمارسون فى المعارضة أقصى درجات النقد، ويتابعون أمورهم فى الحكم أسلوب التبرير اعتمادا على نسيان الشعوب وتآكل ذاكرتها.
ويرتبط بذلك زهايمر القروض ذلك أن الحرية والعدالة وقفوا موقف المناوئ لقرض الصندوق إبان حكومة الجنزورى، وبعد ذلك دافعوا عن القرض وأهميته ويضفون عليه من كل طريق حله وشرعيته، وكذلك يمارسون نسخا لاتفاقاتهم فى إطار من الزهايمر السياسى مصحوبا ببعض الانتهازية حول قانون الانتخاب والتصويت عليه مرتين بشكل يتسم بالتناقض واختلاط المواقف.
هذا غيض من فيض بالنسبة لمن هم فى السلطة أو يساندونها، والأمر لا يختلف كثيرا عن معارضة تتخذ نفس المسار من أعراض الزهايمر التى تصيبها وصمم يصيب آلتها السمعية وممارستها.
ها هو زهايمر الانتخابات يصيب المعارضة، فلنتذكر فى انتخابات مجلس الشعب الأولى إبان تيسير المجلس العسكرى للمرحلة الأولى كان دفع المعارضة بضيق الوقت وعدم مناسبة الظرف وأن أمر الانتخابات لابد وأن يكون له من الإعداد، فمرة هم غير مستعدين ومرة أخرى الظروف غير مناسبة وليست ملائمة، فمتى إذا ستكونون مستعدين لدخول الانتخابات؟!، ذات الحجج وانتحال المعاذير هو سيد الخطاب لدى المعارضة فى حالة تؤشر على إصابة مزمنة بزهايمر سياسى تمكن من عقولهم ونفوسهم وسلوكهم وخطابهم، وها هو الزهايمر الانتخابى يصيب خطابهم حينما يطالبون بتأجيل انتخابات البرلمان بينما يطالبون بتعجيل انتخابات الرئاسة والمطالبة بها مبكرة، أليست تلك صناديق؟! أليست هذه انتخابات كانتخابات؟! أليست ذات الظروف تحيط بمطالبات التأجيل ومطالبات التعجيل فكيف تستقيم الأمور؟!
وهاهو زهايمر النائب العام فى المطالبة بإقالة النائب العام السابق، فإذا تم ذلك طالبوا بعودته وإقالة النائب العام الجديد فى إطار اضطراب فى الذاكرة يعبر عن حالة من الزهايمر السياسى.
وهاهى دعوة الجيش للعودة لمشهد السلطة فى إطار زهايمر يصيبهم حتى فى إطار ما يعتقدون به أيدلوجيا، بأى ليبرالية تؤمنون؟، والى أى أيدلوجية مدنية تستندون فى مطالبتكم بعودة الجيش فى سدة الحكم؟ وأى اختيار هذا بين عودة الجيش ورفض الصناديق؟ وأين هذا من مطالبتكم من قبل بمحاكمتهم على أحداث ماسبيرو وأخواتها.
ويتواكب مع ذلك دعوة أخرى فى إطار استدعاء الخارج على ألسنة بعض رموز من جبهة الإنقاذ، ثم بعد ذلك هم فى زيارة كيرى يرفضون تدخل الخارج لأنه يطالبهم بغير ما يعتقدون وإلى غير ما يرتكنون، وهم يذهبون للاجتماع بالسفيرة الأمريكية من قبل تارة واستدعاء الخارج تارة أخرى.
وها هم فى وقت من الأوقات يطالبون بالتطهير وعزل الفلول فإذا بهم يحتضنونهم وينسقون ويوثقون علاقاتهم بهم وقد أصابهم زهايمر الفلول، وهاهم فى النهاية ينتقلون من تأييد لألتراس الأهلى لتأييد لأهل بورسعيد فى حال من زهايمر مصحوب بسياق من الانتهازية السياسية.
وها هى بعض مؤسسات الدولة فى عهد مبارك المخلوع تزيّن له استبداده وفساده فإذا بهم الآن يركبون موكب الثورة، أو يستأسدون فى معارضة منظومة السلطة وعلى رأسها الرئاسة، وقد كانوا يحملون المباخر للنظام السابق ويسيرون فى مواكب تزوير الانتخابات، ويزينون للسلطة كل أفعالها الفاسدة المستبدة فى كثير من الخطابات.
ها هى المؤسسات تصاب بالزهايمر المؤسسى فى المواقف وفى الخطاب تعتمد فى ذلك على ضعف ذاكرة الشعوب والرهان على نسيانها وغفلتها.
وها هو الزهايمر الذى قد يصيب بعض الثوار حينما يتغافلون عن قيم ثورة 25 يناير فى الثمانية عشر يوما ويمارسون عملا ضد سلمية هذه الثورة وحضاريتها وعناصر الجامعية فيها وينزلقون إلى مهاوى الاستقطاب وإلى دركات الانقسام والتشرذم فى إصابة قاتلة بزهايمر ثورى يضرب الثورة فى مقتل.
إننا نعول فى كل هذا على ذاكرة الثورة وذاكرة الوطن وذاكرة هذا الشعب العظيم الذى يعى مصالحه ولا يغفل عن أهدافه ومكاسب ثورته وجامعية سفينة الوطن ومصالحها العليا. تعالوا إذا نخرج من حالة الزهايمر السياسى بكل أعراضه لأن ذاكرة الشعوب لن تغفر لنا ما أغفلنا وما تناسينا.