نشر في جريدة الشروق المصرية بتاريخ: 2 مارس 2013

ذات مرة وقبل قيام الثورة كانت هناك حلقة فى أحد البرامج التليفزيونية تتعامل مع ظاهرة الغش فى الامتحانات، وكنت قد قررت أن أقوم بالتدخل لأؤكد على مقولة مهمة أن الغش فى الامتحانات كتزوير الانتخابات، الأمر هنا يتعلق بالانتخابات باعتبارها حالة موسمية تحاول فيها القوى السياسية دخول امتحان انتخابى لتقييم أدائها وتعظيم أدوارها. يبدو لى هذا الأمر صادقا وصحيحا فى إطار خطاب يدور الآن حول الانتخابات والامتناع عن خوضها أو مقاطعتها، وبين طرف آخر يؤكد على ضرورة الاحتكام للصناديق والانتخابات، وفى هذا السياق يظهر للقاصى والدانى ضرورة أن توضع الانتخابات فى مقامها الصحيح سواء للمعارضة التى تريد أن تحسن من أوضاعها أو السلطة التى تريد أن تزيد من تمثيلها وتمكينها.

 وغاية الأمر فى هذا المقام أن ترتبط عملية الانتخابات بإمكانية حقيقية فى التداول السلمى للسلطة يتحقق من خلاله قواعد الرقابة والمتابعة والمحاسبة الشعبية لهذه القوى الداخلة فى خضم العملية الانتخابية، ومن هنا نشير إلى أن الانتخابات كما أكدنا فيما سبق لا تصلح وحدها أو تكتفى بذاتها للتعبير عن حقيقة الشرعية ومكنوناتها ذلك أنها  تعتبر أهم مفتتح فى مسار الشرعية ولكنه ليس بنهاية المطاف، الشرعية فى هذا الإطار مسار ممتد يبدأ بالانتخابات ويمر بالسياسات والقرارات ويقاس بالأداءات والإنجازات.

ومن هنا يحمل ذلك العنوان رسالة متعددة الأبعاد، الأولى أوجهها إلى جبهة الانقاذ ومن لف لفهم فى مقاطعة الانتخابات والامتناع عن المشاركة فيها، والثانية تتجه إلى الإخوانيين الذين يرتكنون إلى الانتخابات فى كل وقت وحين.

أقول فى رسالتى الأولى للإنقاذيين: لا تلعنوا الصناديق، ولا الانتخابات، ولا تتهموا هذا الشعب بأنه فى حالة من عدم الوعى والأمية لا يقوم بالتصويت الملائم أو يتمتع بالوعى التصويتى اللازم، هذه الرؤية تعبر فى النهاية عن رؤى متناقضة تطالب فيها جبهة الإنقاذ بضرورة تأجيل الانتخابات التى تتعلق بتأسيس البرلمان بينما تطالب فى ذات الوقت بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة لتكشف عن مقصودها لكونها فى حقيقة ممارستها لا تهتم بانتخابات تتعلق بشكل مباشر بالجماهير ومصالحها وبالشعوب ومعاشها، فى كل مرة طلبت هذه القوى تأجيل الانتخابات حتى يكون الظرف السياسى مواتيا ولم تقدم المرة تلو المرة أى مسوغ أو أى معايير يمكن أن نستند إليها فى إطار تعيين الوقت المناسب لإجراء انتخابات حقيقية يمكن أن تدخلها هذه القوى من غير طلب للتأجيل ومن غير أى تأويل.

ظلت هذه القوى تأتى بالحجج تلو الحجج وبالتبريرات والمعاذير حتى تعتذر عن دخول الانتخابات وكأنها مثل الطالب المقصر الذى حينما يحين استحقاق الامتحانات فإذا به يراوغ ويبحث عن التبرير الذى لا يجعله فى موضع اختبار أو تقييم، ويصاحب هذا خطاب أن فى إمكان هذه الجبهة أن تحصل على ما يقرب من ثلثى المقاعد وفق التصريحات لبعضهم فى هذا الشأن، وكأن تقييم الأمور يأتى من مجرد تكهنات وادعاءات، بينما لا يرغب هؤلاء أن يدخلوا على محك الانتخابات حتى تظهر التقييمات الحقيقية لتعكس أوزان القوى المختلفة على أرض الواقع، قد يكون من المشروع أن تطالب هذه القوى بالضمانات الكافية لنزاهة الانتخابات وضمان الشفافية المتعلقة بإجراءاتها وعمليات تسييرها وضمان مطابقة نتائجها لواقع الحال فى تصويت حر وتمثيل حقيقى، وقد يكون من المشروع أن تعبر هذه القوى عن ضرورة ضمان المناخ الملائم والمواتى لإجراء انتخابات تتسم بالمصداقية والنزاهة والشفافية، ولكن ليس من المنطقى أن نأتى كل مرة عند أعتاب الاستحقاق الانتخابى ونراوغ ونلعن الصناديق ونمتنع عن الانتخابات ونقاطع الامتحانات(الانتخابات)، ونطالب المرة تلو المرة بتأجيل بعد تأجيل، ذلك أن هذه القوى يبدو أنها استمرأت أوضاعا تشير إلى ممارسة فضائية من خلال إعلام فضائى صارت تجد الفرصة فيه للتعبير عن موقفها وآرائها وتضغط من خلاله وتتصور أنها تكتسب بعض النقاط، بينما لا تريد الاشتباك الفعلى فى إطار انتخابات برلمانية واجبة الاستحقاق وترتب حقوقا للهيئة الناخبة على من انتخبوهم.

أما الرسالة الثانية فهى تتجه إلى الإخوانيين ومن لف لفهم وتعاطف مع مسارهم الذى يصدع فى كل مرة إنها الانتخابات! فلنحتكم إلى الصناديق، ولسان حالهم يقول أليست هذه هى الديمقراطية؟ أليست الانتخابات هى التمثيل الحقيقى للعملية الديمقراطية واستثمار آلياتها؟!، أليست الانتخابات والنتائج المتعلقة بها هى الفيصل فى تحقيق القوى السياسية وتمثيلها البرلمانى؟، فى كل مرة سنصل إلى العتبات الانتخابية فنجدهم يهللون إنها الانتخابات!! إنها الانتخابات!!، أقول لهؤلاء الذين احترفوا الانتخابات وجعلوها وثنا يعبدونه وليست وسيلة كاشفة عن حقائق التمثيل السياسى، وعن قدرات تنظيمية يحاولون من خلالها أن يثبتوا بأنهم هم أجدر بالتمثيل، لا تركنوا إلى الانتخابات، ذلك أنها كوسيلة إذ تعبر عن مؤشرات التمثيل فإنها فى حقيقة الأمر يجب أن تقترن بمسارات الرضا الذى يمكن أن يستدل عليه بغير الانتخابات فى إطار من تقييم الأداءات وتحقيق الإنجازات وتدشين السياسات وإصدار القرارات ضمن عملية فاعلة حقيقية تجعل منها إذنا بل إيذانا لهذه القوى أن تمارس أقصى فاعليتها لتحقيق أهداف هذه الشعوب فى ترقية معاشها والنهوض بحياتها وتلبية مطالبها ومواجهة تحدياتها.

إن الركون إلى الانتخابات تلو الانتخابات والتلهى بها لا يمكن بأى حال من الأحوال أن يكون عوضا عن أداءات مكينة وسياسات رصينة تعبر عن مصلحة الوطن والحفاظ على هذه الثورة، فإن كانت الانتخابات مصحوبة ببعض الصفقات والمساومات فإن ذلك على المدى المتوسط لا يمكنه أن يقيم حكما، ولا أن يعدل مسارا، ولا أن يحدث رضا، إن الركون إلى الانتخابات عملية محفوفة بالمخاطر لأنها قد لا تنتهى خاصة فى حال البناء وفى فترات الانتقال، ولا يمكن بأى حال من الأحوال الارتكان إلى أن الانتخابات هى الطريق الوحيد لبناء مؤسسات الدولة المنتخبة، ذلك أن الفكرة الوثن (الانتخابات) حينما تتمكن من صاحبها تعميه عن كل غاية ومقصود، فهنالك فارق كبير ما بين بناء المؤسسات وتأسيسها وتمرير المؤسسات وتفريغها من مضمونها ومن حقائق وظيفتها التكوينية والتمثيلية والرضائية التى تتعلق بعموم الناس وبمصالحهم، إن إقامة هذه المؤسسات من باب التمرير إنما يخرجها مشوهة المبنى ومشوشة المعنى ومزيفة الوظائف، ويصير صناعة المناخ السياسى الذى يتعلق بقدرة هذه المؤسسات لإبراز حقيقة التمثيل وفاعلية التأهيل وقدرات العمل والتفعيل إنما هو الفيصل فى تكوين مؤسسات حقيقية.

 مر الزمن الذى يمكن أن نقبل فيه مرة أخرى مؤسسات «كأن» أو مؤسسات «الزينة» أو مؤسسات «سد الخانة» علينا أن نعرف للمؤسسات جوهرها وأن نحدد لها وظائفها وأن نعين لها أدوارها وأن نحدد لها مناط فاعليتها وكفاءتها وأهليتها وأن نؤصل معانى تكافؤ هذه المؤسسة مع متطالبات مصالح الوطن العليا، وضرورات وحاجيات الشعوب الكبرى، وحقائق وأهداف الثورة المثلى، هنا فقط تكون المؤسسات مؤسسات حقيقية لا مؤسسات تمرير أو مؤسسات تبرير أو مؤسسات تفريغ أو زينة أو إلهاء.

إذا أيها الإنقاذيون لا تلعنوا الصناديق.. أيها الإخوانيون لا تركنوا إلى الصناديق.. إنها كلمة ورسالة ألقيها عليكم حتى يكون ذلك ضمن مسار تأسيس لوطن جديد، وثورة لا تستحق منا إلا المواقف الحقيقية التى تكافئها وتباركها وتمكنها.

 وحتى يمكننا أن نكسر حلقة المواقف المغلقة والدائرة المفرغة فإن على الرئاسة أن تعمل خارج الصندوق، وعلى جبهة الإنقاذ أن تخرج من صندوق المواقف المغلقة والمتصلبة، وعلى الإخوان أن يبرأوا من أسر الصناديق وغوايتها، كل يجب أن يخرج من الصندوق الذى انحبس فيه، إن سعة الوطن لا تحتمل إنحباس كل منكم فى صندوقه، الوطن لم يعد يحتمل ضيق الأفق أو تصلب المواقف، أو عمليات التمرير أو التبرير.

ألا هل بلغت اللهم فاشهد.