نشر المقال في جريدة الشروق المصرية بتاريخ: 16 فبراير 2013
من الأهمية بمكان أن نتحدث فى هذه المرة عن شرعية الرئيس، الشرعية قضية بالغة التعقيد والتركيب بحيث يجب عدم الانطلاق إليها وتقييم أداء الرئاسة من خلالها إلا بعد التعامل مع مجموعة من القضايا التى تتعلق بمنهج النظر إلى قضية الشرعية ذاتها.
وبادئ ذى بدء تبدو لنا عمليات الشرعية تصف حالة فى طريق التراكم بالنسبة لها ومضمونها وعناصرها وآثارها، ترتبط بما يمكن أن يسمى بمسالك اكتسابها ومظاهر فقدانها والتحديات والسياسات التى تتجه ضمن مسارات تناقصها وتآكلها، الشرعية بهذا الاعتبار تزيد وتنقص؛ تزيد بالاعتبار الذى يجعل من تراكم الشرعية وتزايدها أمرا يتعلق بقضايا كثيرة على رأسها الأداء السياسى الذى يرتبط بالرؤى الاستراتيجية وبناء السياسات، وحركة القرارات بما يؤدى اكتساب مزيد من الرضا من جميع فئات الشعب المرتبطة بعائد هذه السياسات وتكلفة هذه القرارات، وأن هذا التآكل يأتى من أكثر من طريق حينما تكون السياسات ومسار القرارات فى سياق لا يتكافأ مع هذه التحديات ولا مع ما تستأهله من رؤى تعبر عن آمال هذه الفئات المختلفة والقدرة على تخفيف الآلام التى تعانى منها خصوصا تلك التى أهملت كثيرا وشكلت الثورة بالنسبة لها طوق نجاة توقعت من خلاله أن يتبدل حالها بما يحدث النقلة النوعية الواجبة ضمن مسار تحسين وتحريك معاشها والارتقاء والنهوض بأحوالها.
الأمر الثانى يتعلق بأن الشرعية لا يجوز فيها الاقتصار على قضية ابتدائية وافتتاحية بصدد عملية اكتساب الشرعية مثل ما يعبر عنه بشرعية «الانتخاب الحر» الذى يشكل فى حقيقته إعلان مبادئ فى تعاقد جديد على مستوى الرئاسة، يعطى المسوغ لعمل هذه المؤسسة فى إطار ينجز ما تبقى من بنود ذلك التعاقد، وهو ما يعنى أن صندوق الانتخابات لا ينهض وحده لتأسيس شرعية ثابتة أو دائمة، وأن عملية الشرعية لا يمكن اختزالها فى صندوق الانتخابات، ولكنها يجب أن تنطلق إلى حالة من الفاعلية فى الأداء والإنجازات، شرعية الأداء والإنجاز تشكل بدورها حالة اختبارية لمؤسسة الرئاسة فى رؤاها المختلفة للتعامل مع التحديات والقضايا المهمة الحالة والضرورية لتحقيق أهداف الثورة الكلية من «العيش والحرية الحقيقية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية»، إن هذا الشعار العبقرى الذى رفعته ثورة 25 يناير لا يشكل فى بنائه وبنياته إلا مشروع برنامج لاستراتيجيات وسياسات يجب أن تنهض بها جهات التنفيذ وعلى رأسها جهة القرار العليا التى تمثلها مؤسسة الرئاسة.
الأمر الثالث يتعلق بالشرعية فى تضميناتها المرتبطة بالحالة الثورية وتحقيق الأهداف والمطالب التى تكافئ هذه الحالة، على طريق صياغة السياسات وبناء المؤسسات حينما تتحول حقيقة الشرعية الثورية إلى منطق بناء يحرك كل طاقات المجتمع لبناء دولة الثورة وثورة الدولة، بناء مصر الجديدة بكل ما تعنيه الكلمة من معان.
الأمر الرابع أن ما سبق لا يمكن القيام به بالفاعلية الواجبة إلا من خلال ذراع تنفيذى تشكل الحكومة الرافعة الحقيقية لمثل هذه السياسات والممارسات، وتشكل بذلك واحدا من أهم مسالك اكتساب الشرعية أو تآكلها على طريق النقص وربما الفقدان.
الأمر الخامس يرتبط بقدرة منظومة القرارات على تراكمها أن تشكل حالة من حالات الفاعلية السياسية من خلال قدرتها على مواجهة التحديات ومدى ملاءمتها لحقيقة الضرورات والاحتياجات التى تتعلق بمعاش الناس، فضلا عن إمكانية أن تكون هذه القرارات مدخلا حقيقيا لنيل رضا الشعب من خلال توقيتها والمقدرة الفعالة على تطبيقها، وتحقيق الهدف منها والمقصود من إصدارها، بحيث تشير إلى حالة من الشفافية والمصارحة والمكاشفة بالتكلفة الحقيقية لهذه القرارات وما يمكنها من خلالها أن تصب كعائد حقيقى لتحقيق مصالح الناس والارتقاء بمعاشهم.
الأمر السادس يتعلق بإطلاق كل الطاقات التى تتعلق بمؤسسات الرئاسة من جهة وجهات التنفيذ من جهة أخرى لتنمية حالة الرضا من الجماهير حيال هذه السياسات فى مناخ يتسم بحالة من التوافق والاستقرار اللازم لإدارة المرحلة الانتقالية بكل متطلباتها عن طريق الصياغة المتكاملة لعقد مجتمعى وسياسى جديد يمثل هذه الثورة ويمثل آمالها ويصنع المستقبل من خلالها، ويرسخ مفهوم رئاسة لكل المصريين.
الأمر السابع يتعلق بالقدرة على تنمية رصيد الثقة المجتمعى فى هذه السياسات، ذلك أن رصيد الثقة المجتمعى فى هذا المقام يشكل أرضية ملائمة لصياغة وتأسيس عمليات الشرعية واكتسابها، وإن أى فقدان لهذه الثقة أو تآكل فى رصيدها المجتمعى أو تزايد فجوة المصداقية وفائض العهود والوعود، إنما يؤثر تأثيرا مباشرا على حالة الشرعية ذاتها وتآكل عناصرها ونقصان مفاعيلها وفاعليتها.
فى إطار هذه السباعية المهمة الدالة على حقيقة اكتساب الشرعية وزيادتها ومظاهر تآكلها ونقصانها يمكن الإشارة إلى عدة مؤشرات تسير فى مسار التآكل لا اكتساب مزيد من هذه الشرعية وتراكمها والتى تؤصل معنى فاعلية الشرعية وشرعية الفاعلية:
أولا: فجوة المصداقية وتآكل رصيد الثقة فى تقبل كل الأمور الصادرة عن مؤسسة الرئاسة ومؤسسة الحكومة التى تعبر عن سياسات غالبا ما تقترن بمسارات الفشل التى لا تحتملها المرحلة الانتقالية باعتبارها مرحلة استثنائية تتطلب رؤية استراتيجية للتأسيس لمرحلة انطلاق وإقلاع حقيقية.
ثانيا: فشل الإدارة الحكومية التى لا تمتلك فى شخص رئيس وزرائها أية رؤية أو استراتيجية للخروج من مآزق حقيقية، تصب فى النهاية فى حاجات الناس وتحقيق حاجاتهم المعيشية وضروراتهم الأمنية، وبدلا من أن تمثل هذه الحكومة طاقة فاعلية مضافة للرئاسة، عبرت عن مسار فشل فى التعامل مع قضايا الشعب الحقيقية وتحديات الوطن الأساسية.
ثالثا: إن الطريقة التى تدار فيها الأمور بحالة من العشوائية والتردد والتراجع فى عمليات القرار إنما تشكل أهم مؤشر على أن القرار لم يعد يستند إلى الشرعية الواجبة التى تسهم فى صناعة الرضا المتعلق بعموم الناس والجماهير، وهو أمر جعل القرار مع سياسات التعتيم والتعويم التى ترتبط به حالة تمثل تآكل شرعيته من حيث طريقة صناعته واتخاذه أو من حيث تأثيره ومآلاته.
رابعا: إن النظر فى حقيقة العائد السياسى الذى يترتب على الاستثمار فى إطار الحركة السياسية للتعامل مع بعض الإشكالات بالخطاب الواضح والعميق القادر على التأثير فى قناعات الناس ووعيهم بحقيقة الأمور إلا أن الممارسات الخطابية مثلت إهدار لإمكانات حقيقية كان من الممكن استثمارها من دون أى تكلفة مادية، حتى هذا الجانب قصّرت الرئاسة قبل جهات التنفيذ فى التعامل مع هذه المساحة واستثمارها فى اكتساب رضا فئات كبيرة من الشعب ومن القوى السياسية والمجتمعية.
خامسا: إن ما آل إليه الأمر من حالة مجتمعية يسودها المزيد من الاستقطاب والتصدعات التى حدثت فى بناء المجتمع وحركة السياسة فيه وسقوط دماء وشهداء جدد، إنما يشكل فى حقيقته أزمة مفصلية فى تماسك الجماعة الوطنية، وقوانينها التأسيسية.
كل ذلك هو ما قصدناه بتآكل حال الشرعية واستمراره ضمن مسار النقصان فى قدراتها وعناصر الفاعلية المتعلقة بها، وهو أمر إن كنا نعترف بوجوده والذى يتطلب تفكيرا وفعلا أساسيا خارج الصندوق، يبذل الجهد الواجب والعمل اللازم لاستثمار العوائد السياسية المختلفة، إلا أنه فى ذات الوقت لا يمكننا أن نقبل ذلك الاستخفاف والمراهقة السياسية التى تتحدث عن إسقاط وسقوط شرعية الرئيس، وتعتبرها كرخصة القيادة التى يمكن سحبها أو إيقافها، إن هذا التفكير يعبر ضمن ما يعبر عن الاستهانة بمقام قيادة الوطن حتى تعتبره «رخصة قيادة سيارة» قابلة للسحب أو الإلغاء، إن شأن الشرعية شأن خطير يتطلب منا التفكير فى هل تصلح هذه الفترة الزمنية للحديث عن انهيار الشرعية أو سقوطها؟ أم أن الأمر فى حقيقته يسير ضمن تحذير مؤسسة الرئاسة ومؤسسات التنفيذ على أن مسار السياسات والقرارات إنما هو فى الطريق على تآكل الشرعية وإهدار استثمارات مهمة على طريق اكتسابها.
هنا فقط فإننا ننادى بأعلى صوت: ألا أيها المتحدثون عن الشرعية وجب عليكم أن تكونوا عند مستوى المسئولية، وإن أى عمل يتعلق بأساليب يمكن أن تنشر حالات من العنف أو الفوضى إنما تصب فى النهاية فى خانات انتهاك الشرعية وانتهاك مقامها، نرجوكم لا تتحدثوا عن الشرعية بالاستهانة لأن فى ذلك إهانة لثورة عظيمة وشعب عظيم.