من مقصود “قاموس المقاومة” أن يذكرنا بمقولات مفتاحية أو كتابات معاصرة أو تراثية؛ فمن المهم تعلم معنى التلبيس ومداخله وطرقه الخادعة ومسالكه أن نتوقف فيه فهما وفطنة عند معاني التلبيس التي رصدها “ابن الجوزي” في كتابه “تلبيس إبليس”. وهذا الكتاب يرشدنا إلى مزالق الخلق والأنام؛ ومضلة الأفهام ومزلة الأقدام؛ ومداخل مذلة النفوس وغياب كل معاني المقاومة والإقدام، “فأقبل الشَّيْطَان يخلط بالبيان شبها وبالدواء سما وبالسبيل الواضح جردا مضلا وما زال يلعب بالعقول إلى أن فرق الجاهلية فِي مذاهب سخيفة وبدع قبيحة.. واستمر على ذلك والناس تعتنقه طوعا لا كرها إلى أن دخل فيه أفراد من اليهود والمجوس وانتسبوا إليه ظاهرا وهم في الواقع يعملون على هدمه وتقويض دعائمه، فأخذوا يوقدون نار الفتنة بين أهله ويدخلون فيه أشياء من التي كان ينهى عنها؛ يحسنونها لعامة الناس حتى شوهوا معالمه واتخذها من جاء بعدهم ممن لا يميزون بين الصحيح والسقيم والحق والباطل دينا ويتقربون بها إلى ربهم، والله تعالى أعز شأنا من أن يتعبد الناس بمثل هذه الضلالات.. ونهض إبليس يلبس ويزخرف ويفرق ويؤلف وإنما يصح لَهُ التلصص فِي ليل الجهل فلو قد طلع عَلَيْهِ صبح العلم افتضح.. وينبغي أن تعلم أن إبليس شغله التلبيس”.
“التلبيس إظهار الباطل فِي صورة الحق، والغرور نوع جهل يوجب اعتقاد الفاسد صحيحا والرديء جيدا، وسببه وجود شبهة أوجبت ذلك. وإنما يدخل إبليس عَلَى الناس بقدر مَا يمكنه ويزيد تمكنه منهم ويقل عَلَى مقدار يقظتهم وغفلتهم وجهلهم وعلمهم. واعلم أن القلب كالحصن وعلى ذلك الحصن سور وللسور أبواب وفيه ثلم وساكنه العقل، والملائكة تتردد إلى ذلك الحصن، وإلى جانبه ربض فيه الهوى، والشياطين تختلف إلى ذلك الربض من غير مانع. والحرب قائمة بين أهل الحصن وأهل الربض، والشياطين لا تزال تدور حول الحصن تطلب غفلة الحارس والعبور من بعض الثلم؛ فينبغي للحارس أن يعرف جميع أبواب الحصن الذي قد وكل بحفظه وجميع الثلم، وأن لا يفتر عَن الحراسة لحظة فَإِن العدو مَا يفتر. قَالَ رجل للحسن البصري: أينام إبليس؟ قَالَ لو نام لوجدنا راحة”.
“وهذا الحصن مستنير بالذكر مَشْرِق بالإيمان، وفيه مرآة صقيلة يتراءى فيها صور كل مَا يمر به، فأول مَا يفعل الشَّيْطَان فِي الربض إكثار الدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة؛ وكمال الفكر يرد الدخان وصقل الذكر يجلو المرآة. وللعدو حملات فتارة يحمل فيدخل الحصن فيكر عَلَيْهِ الحارس فيخرج،
سلوك مبطن مركب يجمع ما بين ديانة مصطنعة زائفة كاصطناع دولة بني صهيون؛ وظواهر التصهين التي تمثلت في احتلال الثقافات والعقول؛ ومظاهر التطبيع التي اجتلبت كل كلمات الادعاء والتبرير؛ فاستغرقت في كل ذلك وانغمست فيه وهرولت إليه وركبت كل مركب يهدف إلى تشويه كل مقاومة في الأمة
وربما دخل فعاث وربما أقام لغفلة الحارس وربما ركدت الريح الطاردة للدخان فتسود حيطان الحصن وتصدأ المرآة فيمر الشَّيْطَان ولا يدري به، وربما جُرح الحارس لغفلته وأُسر واستُخدم وأقيم يستنبط الحيل فِي موافقة الهوى ومساعدته؛ وربما صار كالفقيه في الشر. قال بعض السلف: رأيت الشَّيْطَان فَقَالَ لي قد كنت ألقى الناس فأعلمهم فصرت ألقاهم فأتعلم منهم. وربما هجم الشَّيْطَان عَلَى الذكي الفطن ومعه عروس الهوى قد جلاها فيتشاغل الفطن بالنظر إليها فيستأسره. وأقوى القيد الذي يوثق به الأسرى الجهل وأوسطه فِي القوي الهوى وأضعفه الغفلة، وما دام درع الإيمان عَلَى المؤمن فَإِن نبل العدو لا يقع فِي مقتل”.
إن من شأن التلبيس إلباس ثوب غير الحقيقة، وهي عملية تقوم على التخفي والتسلل والتعمية والتضليل؛ والتغرير والتزييف والتزوير؛ والخلط في الأوراق والتخليط؛ واستخدام زخرف القول غرورا؛ والإخفاء للمقصد والغاية؛ والتغطية على الفساد الظاهر منه والكامن والمستور ضمن عمليات تستر كبرى؛ وإغراء بما لا ينفع؛ والحديث بالأماني والتمنيات ليمد لهم في غيهم يعمهون؛ ويكون ذلك بتحسين القبيح وتقبيح الحسن؛ فيلبسون على الحال والمآل جملة؛ وما وجدنا من ظواهر تتصل بذلك خاصة في تعامل الأمة مع عدوها الصهيوني في صراع حضاري ووجدي ومصيري؛ فتخرج علينا تلك الظواهر متعللة ومتسللة تحت عناوين ضالة ومضلة؛ لا طائل منها ولا نفع من ورائها “كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء”.
يا له من سلوك مبطن مركب يجمع ما بين ديانة مصطنعة زائفة كاصطناع دولة بني صهيون؛ وظواهر التصهين التي تمثلت في احتلال الثقافات والعقول؛ ومظاهر التطبيع التي اجتلبت كل كلمات الادعاء والتبرير؛ فاستغرقت في كل ذلك وانغمست فيه وهرولت إليه وركبت كل مركب يهدف إلى تشويه كل مقاومة في الأمة؛ وتوهين والتهوين من كل معاني العزة والكرامة والصمود.
وهم يدخلون ضمن أبواب التطبيع التي شرعوها؛ ومداخل التصهين التي ركبوها وارتكبوها؛ وروجوا لها واصطنعوها؛ وقد اختلقوا لها غطاء دينيا هذه المرة أسموه بـ”الإبراهيمية” في بدعة ابتدعوها؛ وهم الذين ابتدروا في كل آن يصرخون ويَعوُون؛ لا تجعلوا من الصراع مع الصهاينة أمر عقيدة أو دين؛ وهم إذا قال الصهاينة بـ”يهودية الدولة” أمّنوا على قولهم وقالوا آمين؛ ولم يعتبروا ذلك أمر دين؛ بل جعلوا من ذلك أمرا مفعما بالعنصرية والتعصب المهين؛ فإن قلنا إن شأن الصراع للأمة مع الكيان الصهيوني هو أمر عقيدة ودين؛ وأقصى وبيت مقدس في فلسطين؛ قالوا لا تخلطوا الأوراق وهم المدلسون.
ومن هنا ففي كل مرة يستدعون الدين في خدمة أغراضهم الخبيثة وما يريدون؛ فاعلم أن هذا من تلبيس الأبالسة وتدليس المدلسين؛ فجعلوا من ديانة ابتدعوها مطية لأغراضهم الدنيئة والدنية وما يقصدون؛ من هزيمة للأمة بغير حرب ويجردونها من المقاومة والمدافعة والجهاد كذروة سنام لهذا الدين؛ فيهزموننا من غير حرب أو تمسك بشرعة وعقيدة ودين.
وكانت التسويات السياسية التي تمت في جغرافية الأمة مع الكيان الصهيوني من أبرز الأسباب التي أدت إلى زيادة الهيمنة لبني صهيون على كامل أراضي فلسطين، والتأثير في هيكل وبنية الأمة وعالم أفكارها وجغرافيتها وتدينها؛ ومكان ومكانة الأمة من عرب ومسلمين، منذ وعد بلفور بين الإمبراطورية البريطانية والصهاينة في عام 1917 والذي نص صراحة إعلانه عن تأييده لإنشاء “وطن قومي لليهود” على حساب الفلسطينيين، وبدء موجات النزوح اليهودي إلى فلسطين بعد الحرب العالمية الأولى.
كانت هناك ثلاث حروب بين العرب والكيان الصهيوني والسيطرة الإمبريالية الصهيونية على الفلسطينيين، مما أدى إلى تشريد ملايين اللاجئين ومئات الآلاف من القتلى من الفلسطينيين منذ حرب عام 1948. لم يكن هناك أي نوع من العلاقات الدبلوماسية القوية مع إسرائيل باستثناء مصر والأردن، “ومع ذلك، فإن التغيرات الجيوسياسية على مدى العقد الماضي قد تم اختزالها في شكل أزمات جديدة مثل ثورات الربيع العربي، وظهور الإخوان المسلمين وداعش، وقوى الهيمنة غير العربية الجديدة مثل إيران وتركيا على مدى العقد الماضي.. غيرت هذه التطورات منظور الملكيات العربية لفكرة الأمن القومي العربي؛ حيث يرون أن القضية الفلسطينية مجرد إلهاء عن التهديدات المباشرة الحقيقية”. ولذلك وللأسف كانت وقامت اتفاقات أبراهام بين الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل ومن ثم اتفاق بين البحرين وإسرائيل، والتي ستكون له تداعياتها المريرة على الأمة وخرائطها الجغرافية والثقافية.
“ورغم سعي أغلب الدول إلى إبعاد الدين عن السياسة اتباعا للمدرسة الواقعية التي ترفض أي وجود للدين وفق معتقدها العلماني الفج منذ قرون، ونفت أي دور للدين في العملية السياسية وحملت شعار فصل الدين عن الدولة، بل وفصل الدين عن مجمل الحياة بكاملها، لكن اليوم يشهد العاﻟﻢ مدا جديدا كمحدّد للعلاقات والتوازنات والتفاعلات داخل السياسة الدولية، فجاء اليوم مفهوم “الدبلوماسية الروحية”،
هكذا بدأت القصة سياسيا وثقافيا وحضاريا؛ لم تكن اتفاقات إبراهام إلا وعد بلفور جديد أسميناه “وعد أبراهام”؛ حاولت فيه القوى التي اصطنعته وقدمته غزوا معنويا وحضاريا؛ ثقافيا وفكريا؛ واحتيالا دينيا وعقديا؛ ومدا جغرافيا ومكانيا متصهينا وتطبيعيا؛ وطمسا لتاريخ الأديان وترسيما مستجدا تاريخيا لتسكين الكيان الصهيوني ومشاريعه الاستيطانية والإحلالية دينيا وجغرافيا وتاريخيا
وتطوّر ليكون مدخلا للحلّ والتسوية، وبدأ الحديث عن مفهوم يؤكّد أنّ الدين مصدر الصدام قد تغير، وأن “السلام الديني العالمي” المقرّر الوصول إليه عبر مفهوم “الدبلوماسية الروحية” وما ستقدّمه من حلّ غير تقليدي للصراعات الدينية. وضمن مفهوم جديد إلى الأديان السماوية الثلاثة تمّ طرح ما يسمى بـ”الديانة الإبراهيمية الجديدة”؛ ويتم تداول المفهوم بهدف “حل النزاعات والصراعات الممتدة والقائمة على أبعاد دينية”.
هكذا ذكرت ورقة نعدها تأسيسية في المسألة الإبراهيمية تحت عنوان “الإبراهيمية الجديدة: خديعة أمريكية صهيونية” وضعها مركز الاتحاد للأبحاث، فـ”بداية قصة الدين الإبراهيمي الجديد كانت في تسعينات القرن العشرين، حيث قامت الإدارة الأمريكية بإنشاء برنامج أبحاث لدراسات الحرب والسلام، وبدأت في اختبار المفهوم الإبراهيمي، عن طريق جامعة هارفارد الأمريكية، حيث قامت الجامعة بإرسال فريق من الباحثين لاختبار فرضية وضع نبي الله إبراهيم كعنصر تتجمع حوله الدول المختلفة، من أجل محاولة وضع دين يساعد على حلّ القضية الفلسطينية والاعتراف بإسرائيل كدولة من خلال هذا التجمع حول الدين الإبراهيمي الجديد. وقد توصل هؤلاء الباحثون إلى أن الثقافة الدينية والرأي العام في المنطقة يحمل مكانة كبيرة للنبي إبراهيم سواء كان يهوديا أو مسيحيا أو مسلما”.
هكذا بدأت القصة سياسيا وثقافيا وحضاريا؛ لم تكن اتفاقات إبراهام إلا وعد بلفور جديد أسميناه “وعد أبراهام”؛ حاولت فيه القوى التي اصطنعته وقدمته غزوا معنويا وحضاريا؛ ثقافيا وفكريا؛ واحتيالا دينيا وعقديا؛ ومدا جغرافيا ومكانيا متصهينا وتطبيعيا؛ وطمسا لتاريخ الأديان وترسيما مستجدا تاريخيا لتسكين الكيان الصهيوني ومشاريعه الاستيطانية والإحلالية دينيا وجغرافيا وتاريخيا، فقدمت بذلك نموذجا لتلبيسات الأبالسة.. وللقصة الإبراهيمية بقية.