التطبيع أبراهام

في علوم الجريمة قاعدة ذهبية “ابحث عن المستفيد”، وقصة الإبراهيمية وبما يحفها من ضلالات ودعايات داخلة في هذه القاعدة. ومن هنا قد يكون من المهم أن نتوقف عند تمييز دقيق وعميق أطلقه أستاذنا الدكتور حامد عبد الله ربيع، وفي تفرقة تحمل بصيرة علمية ومنهاجية؛ بين الدعوة والدعوى والدعاية.

ذلك أن الدعوة إنما تشير الى معاني دعوة الحق والصدق والعدل “وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا”، أما الدعوى فإنه قد غلب عليها معانٍ قانونية وقضائية، وهي تتعلق بمعنى الدعوى واحتمالها بعد التبين والتحقيق والتدقيق وما قد يرد عليها من أوصاف، فتكون إما دعوى صادقة أو دعوى كاذبة، وقد ترد على القول فيقع عليها التفنيد فيستبان أمرها ووصفها وحكمها. وهي غالبا ما تتعلق بالأدلة والعلامات والقرائن؛ كما تتعلق بإسناد الحجة والبرهان؛ وهي تحتمل الظن واليقين والصدق والكذب ضمن حال احتمال ضعف الدعوى وعدم صدقها؛ أو قوة الدعوى ومصداقيتها. ومن هنا تمت استعارة هذا المعنى في المجال القانوني والقضائي والمحاكم التابعة لهما.

أما الدعاية، وهي بيت القصيد في قصة الإبراهيمية والدعاية المسمومة لها؛ فهي من خُبثِها وخَبثها تنسج على جزء يبدو متصلا بحقيقة ما؛ ولكن غالبا ما يُحاط بمجموعة من الأكاذيب ومسالك التضليل وألوان من التزييف ومداخل تأويل منحرفة، كل ذلك لتقوم بعمليات تغرير وتمرير للجمهور المستهدف. ويصدر ذلك غالبا من أصحاب مصلحة يتخفون في معركة دعائية ضمن أشكال من الغزو المعنوي والحضاري؛ 

قصة الإبراهيمية “نموذج دعائي” بهذا المعنى، خاصة حينما تصاغ تلك القصة ضمن احتفالات مشبوهة ومراكز معروفة أدوارها، وللأسف دول عربية تشكل ساحات لاختبارها؛ ومؤسسات وجهود رسمية وغير رسمية لدعم ومساندة هذه القصة الخادعة المخادعة

وحروب نفسية باعتبارها أساليب لبلوغ أهداف ومقاصد سياسية معلنة أو غير معلنة. وتتوسل هذه النوعية من الدعاية أساليب اتصالية ترويجية وإعلامية وإعلانية، في محاولة لصناعة سردية القليل فيها والنادر منها صدق والكثير الذي يلفها الكذب والتلفيق والتأويل المنحرف لهدف خبيث.

قصة الإبراهيمية “نموذج دعائي” بهذا المعنى، خاصة حينما تصاغ تلك القصة ضمن احتفالات مشبوهة ومراكز معروفة أدوارها، وللأسف دول عربية تشكل ساحات لاختبارها؛ ومؤسسات وجهود رسمية وغير رسمية لدعم ومساندة هذه القصة الخادعة المخادعة، وهو ما أكدنا عليه في مقال سابق.

هذه القصة بما تحمله من دعايات زائفة ومغرضة أسست شبكة عل مستويات ومداخل عدة؛ أُسند لكل منها دوره في محاولة لتمرير السياسات التطبيعية وتمكين الثقافة المتصهينة وفق مسارات تفعيل اختطتها وأدوار رسمتها، وغالبا ما يتجه هذا الكيان الصهيوني ومسانديه إلى مناطق المفاصل في كيان الأمة لأنها تشل فعل الحركة وتستهدف المناطق الرخوة المتعلقة بالأمة فتستهدف القلب والأطراف معا؛ وتحدث إضعافا في مفاصل الحركة ومنطقة القلب وتوهين الأطراف، بما قد يمكنها من شل حركة كيان الأمة وتكويناتها أو عجزها عن الحركة والنشاط والفاعلية.

من وحي مقالات وتأليفات كثيرة حول قصة الإبراهيمية (من مثل كتاب الدكتور محمد يسري “الإبراهيمية ضلالة القرن”، وكتاب الدكتور إسماعيل علي “الإبراهيمية بين خداع المصطلحات وخطورة التوجهات”، وورقة بحثية صادرة عن مركز الاتحاد تحت عنوان “الإبراهيمية الجديدة: خديعة أمريكية صهيونية”، وبحث هاني رمضان طالب بعنوان “الإبراهيمية بين التعايش والسيطرة”) كان من الممكن الوقوف على هذه الشبكة تتعلق بساحات ومساحات موضع تأثير.

ومن أهم خيوط تلك الشبكة؛ الذاكرة والمفاهيم والمؤسسات الحاضنة والداعمة، وعمليات التمويل وضخ الأموال المشبوهة، والأهداف المعلنة وغير المعلنة، ووظائف وأدوار مخططة ومُسنَدة”. هذه الشبكة في حركتها المعلنة وغير المعلنة تشكل أذرعا تطبيعية ومتصهينة؛ تقوم بأدوار تشكل أخطر مسالك العدو وزبانيته في عمليات مستقرة ومستمرة ضمن عملياتها وسياستها المشبوهة بتوهين وتشويه كل فعاليات المقاومة في الأمة، وإسناد السردية الصهيونية وترويجها فيها بما يضمن تمكين حال الهزيمة النفسية المسبقة وبدون حروب مخططة.

هذه الشبكة في حركتها المعلنة وغير المعلنة تشكل أذرعا تطبيعية ومتصهينة؛ تقوم بأدوار تشكل أخطر مسالك العدو وزبانيته في عمليات مستقرة ومستمرة ضمن عملياتها وسياستها المشبوهة بتوهين وتشويه كل فعاليات المقاومة في الأمة، وإسناد السردية الصهيونية وترويجها فيها بما يضمن تمكين حال الهزيمة النفسية المسبقة وبدون حروب مخططة

أما عن الذاكرة والعبث بها ومحاولات طمس كل عناصر المدافعة والمقاومة فيها؛ فهي أخطر المعارك التي يمكن خوضها في سياقات تحاول تمكين السردية الصهيونية وتزيينها في أرجاء الأمة، فيخرج من يخرج من بني جلدتنا وبألسنتهم المأجورة وأدوارهم المرسومة؛ فيقدم مقولات مسمومة؛ في مقدمتها أن الفلسطينيين باعوا الأرض، أو أنهم معدومو الوحدة الوطنية وصانعو فُرقة.

وتعد المقولة الإبراهيمية ضلالة هذا القرن أهم فرية في هذا الزمان؛ والتي تحاول تمرير وتبرير كل مداخل التطويع من خلال التطبيع. وهذا المصطلح وافد من الغرب؛ حيث جرى إطلاقُه في القرن التاسع عشر.

وعلى المستوى المعرفي والبحثي وكذلك الاستشراقي؛ يقرر أحد الباحثين أن “استثمار رمزيّةِ إبراهيم لدى المعاصرين قد بدأ في القرن التاسع عشر، وبالتالي فإنّ مصطلح “الديانات الإبراهيمية” هو مفهوم حديث؛ حيث نقرأ منذ 1811 عن “الميثاق الإبراهيمي” (the Abrahamic Covenant) الذي يجمع بين المؤمنين في الغرب، وذلك قبل أن يتحوّل اسمُ إبراهيم إلى اصطلاح بحثيٍّ لدى المؤرّخين في الخمسينيات من القرن العشرين، رسّخه لويس ماسينيون في مقالة نشرها عام 1949 تحت عنوان: “الصلوات الثلاث لإبراهيم، أبِ كلِّ المؤمنين”، ثمّ تحوّلت “الديانات الإبراهيمية” إلى حقل دراسات مستقلة بنفسها.

أما على المستوى المفاهيمي والتلاعب به وفيه، فيعد كذلك من أخطر المداخل؛ فقد كثر تداول مصطلح “الإبراهيمية” منذ الإعلان عن اتفاق تطبيع كلٍّ من الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين مع الكيان الصهيونيّ المحتل، برعاية أمريكية، في آب/ أغسطس 2020، والذي جرى توقيعه في البيت الأبيض في العاصمة الأمريكية واشنطن، في منتصف أيلول/ سبتمبر 2020، بحضور وفودِ أطرافِ الاتفاق الثلاثة، مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأُطلق اسمُ “أبراهام” على الاتفاق. وكان ترامب قد طلب من السفير الأمريكيّ في إسرائيل ديفيد فريدمان أن يشرح دواعي إطلاقِ اسم “اتفاق إبراهيم” على وثيقة التطبيع بين إسرائيل والإمارات؛ وردّ السفير الأمريكيُّ بالقول: “إبراهيم -كما يعلم الكثير منكم- كان أبا لجميع الديانات الثلاث العظيمة، يشار إليه باسم “أبراهام” في العقيدة المسيحية، و”براهيم” في العقيدة الإسلامية، و”أبرام” في العقيدة اليهودية، ولا يوجد شخص يرمز إلى إمكانية الوحدة بين جميع هذه الديانات العظيمة الثلاث أفضل من إبراهيم، ولهذا السبب تمت تسمية هذا الاتفاق بهذا الاسم. وردّ الرئيسُ الأمريكيّ في محاولة للمزاح- رائع.. شيء عظيم، أردت أن يطلَق عليه “اتفاق دونالد ترامب”؛ لكني (وهو يضحك) لم أعتقد أن الصحافة ستفهم، ولم أفعل هذا الأمر”.

أما على مستوى السياسات المقترن بتأسيس مستودعات أفكار تهتم برسم الاستراتيجيات ووضع السياسات، فإن “بداية قصة الدين الابراهيمي الجديد كانت في تسعينات القرن العشرين، حيث قامت الإدارة الأمريكية بإنشاء برنامج أبحاث لدراسات الحرب والسلام، وبدأت في اختبار المفهوم الإبراهيمي عن طريق جامعة هارفارد الأمريكية، حيث قامت الجامعة بإرسال فريق من الباحثين لاختبار فرضية وضع نبي الله ابراهيم كعنصر تتجمع حوله الدول المختلفة، من أجل محاولة وضع دين يساعد على حلّ القضية الفلسطينية والاعتراف بإسرائيل كدولة من خلال هذا التجمع حول الدين الإبراهيمي الجديد. وقد توصل هؤلاء الباحثون الى أن الثقافة الدينية والرأي العام في المنطقة يحمل مكانة كبيرة للنبي إبراهيم سواء كان يهوديا أو مسيحيا أو مسلما”. وقد قدموا إرهاصات بناء استراتيجية في هذا المقام ووضعوا سياسات لتنفيذها؛ وهو ما أشرنا إليه في مقال سابق.

وفي إطار هذه الشبكة يقفز المستوى المؤسسي الذي يترافق مع عالم الأفكار الإبراهيمية، وعندما نطالع في الدراسات التي تناولت “الإبراهيمية”، وفي واقع مَن ينادون بها؛ “نجد أننا أمام تمثلات فكرية أعقبها أبنية مؤسسية؛ فتصاحب الدعوة إلى الوَحدة أو التقريبِ أو التوفيقِ بين اليهوديةِ والنصرانيةِ والإسلام، وإسقاطِ الفوارقِ الجوهرية فيما بينها، والالتقاءِ على القواسم المشتركةِ فيها، والاعترافِ بصحتها جميعا، تحت مظلةِ الانتسابِ إلى سيدنا إبراهيم، عليه السلام. 

المهم أن نشير الى الذراع التمويلي الذي يضخ المليارات لتمويل الدعاية العالمية لتلك الفكرة الخبيثة لتمكين المشروع الصهيوني المدعوم أمريكيا وغربيا؛ وأتى طوفان الأقصى ليجرف أمامه كل تلك الدعايات الزائفة؛

وانطلاقا من هذا تقام مُجمّعات “روحية” للأديان الثلاثة، تضم دُورَ العبادة الخاصة بالمسلمين والنصارى واليهود، تشتمل على مسجد وكنيسة وكنيس، متلاصقة جنبا إلى جنب، مثلما فعلت الإمارات العربية؛ حيث قامت بالفعل ببناء مجمع أو معبد الديانات الإبراهيمية الثلاث في أبو ظبي، باسم “البيت الإبراهيميّ”، يضم مسجدا للمسلمين وكنيسة للنصارى ومعبدا لليهود، وافتتحته في العامَ 202، وكما أراد الرئيسُ المصريّ الأسبق أنور السادات من قبل حينما أعلن عزمَه إقامةَ “مجمع الأديان”، لكنه غادر الدنيا قبل بنائه”.

وسبقت هذه الأمور طرح تلك الأفكار في حوارات الأديان والثقافات والحضارات، كما قامت مؤسسات إعلامية ودعائية تروج لهذه القصة المشبوهة.

وأخيرا وليس آخرا من المهم أن نشير الى الذراع التمويلي الذي يضخ المليارات لتمويل الدعاية العالمية لتلك الفكرة الخبيثة لتمكين المشروع الصهيوني المدعوم أمريكيا وغربيا؛ وأتى طوفان الأقصى ليجرف أمامه كل تلك الدعايات الزائفة؛ “فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ” (الرعد: 17).

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *