نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 11 سبتمبر 2018
استطاع العسكر وفق خطط معينة أن يجعلوا من هذا الشباب شبابا حائرا، هذه الحيرة التي تملكت الشباب؛ لم تكن فقط ممارسات العسكر هي الوحيدة السبب في ذلك، بل كانت ممارسات معظم القوى السياسية المختلفة على تنوع أشكالها وأيديولوجياتها، ليبرالية كانت أو قومية أو يسارية أو دينية، إسلامية أو مسيحية، وكأن هذه القوى جميعها قد فكرت بمنطق وعقل احتواء الشباب. احتواء الشباب هنا لم يكن إلا رؤية من هؤلاء لمحاولة استيعاب الشباب في محاولة لامتصاص طاقاتهم الثورية، ولم يكن في حسبانهم -رغم أنهم قد رفعوا شعار التمكين – أن يمكِنوا لهم حقيقة، ومن ثم تملكت هذا الشباب حيرة بالإضافة إلى ما قام به هؤلاء في محاولة احتواء أخرى، ولكن بتفتيت قواهم وصناعة الفرقة فيما بينهم. وبين فرقة مصطنعة وشعار التمكين الزائف تحولت حيرة الشباب إلى حالة من الإحباط. إحباط هؤلاء يعود إلى أن أمل الثورة والتغير يتسرب من بين أيديهم، رغم أن بعضهم قد بذل كل طاقته في محاولة لتجميع طاقات الشباب والالتفاف حول مبادئ الثورة. وأشهد شهادة خاصة أن الشباب الذين انضموا إلى اتفاق فريمونت قبيل ظهور نتيجة الرئاسة في جولتها الثانية؛ أبلوا بلاء حسنا في التفاعل مع عالم الأحداث، وأشهد أنهم بحق كانوا الأكثر نضجا من الكبار، بالتفاعل مع عالم الأحداث ومحاولة التمكين ضمن استثمار طاقة الثورة في محاولة للتمكين لها.
ولكن من المؤسف حقا أن نرى مسالك للاستقطاب قد برزت، ومحاولات تنازع الشباب قد برزت والتركيز على خلافات كانت تستحق التأجيل قد تقدمت في صدر المشهد. فبدلا من استثمار تلك الطاقات الشبابية في عملية بناء التغيير والحفاظ على الثورة وحمايتها، فقد بات هؤلاء ممن تسموا بالنخبة؛ يصدّرون خلافاتهم إلى شبابهم. وإن نظرة حقيقية حول “ائتلاف شباب الثورة”، الذي شكل آنذاك ثرمومترا ومقياسا لوعي الشباب واستيعابه لأهداف الثورة وشعاراتها والتأكيد على حال الجامعية فيما بينهم، فنرى أن هذا الائتلاف صُدر إليه الخلاف واسعا حتى تحول هؤلاء من قوة فاعلة إلى اندفاعهم لاتخاذ أخطر قرار بالحل الاختياري لائتلاف شباب الثورة. وفي حقيقة الأمر، كان ذلك خطأ فادحا مهما كان ذلك الظرف الدافع إليه أو الأسباب التي جاءت على ألسنة بعضهم، ذلك أن هذا الائتلاف في حله لم يكن في حقيقة الأمر إلا دالة كبرى على تمكن فيروس الاستقطاب؛ ليس فقط من النخبة، ولكن من جيل الشباب، وصار الأمر أخطر ما يكون لأن ذلك لم يكن إلا تعبيراعن رغبة دفينة لنخبة محنطة عتيقة، وعن سعادة غامرة من العسكر الذي شكل هذا الائتلاف تحديا كأحد أهم القوى الحاملة للثورة وشعاراتها وأكثرها فاعلية.
كذلك، فإنه من المؤسف حقا أن شعار تمكين الشباب الذي ارتفع إبان اتفاق فريمونت؛ نراه قد تبدد في حقيقة الأمر مع مرور الأيام. وأنا هنا لأستغرب استغرابا شديدا من بعض بيانات قد خرجت من قبل جماعة الإخوان المسلمين، لتؤكد أنه ليس لها من شباب يمثلها في ائتلاف شباب الثورة، وكانت قد حولت معظمهم إلى التحقيق، وكان بعضهم تحت التهديد بالفصل أو صار من المفصولين.. لا أدري كيف تفرط الحركة الإسلامية الكبرى كحركة اجتماعية في شبابها الناهض الفاعل الذي التأم مع شباب آخرين وكوّن حالة شبابية ممتدة وفعالة، لا لشيء، إلا لأن هؤلاء قد عبروا في بعض مواقفهم وتصرفاتهم واحتجاجاتهم عن مواقف مختلفة عما تبنته الجماعة في أحداث كثيرة. ولم يكن هذا للأسف الشديد إلا حالة أخرى من التفريط والتبديد للطاقة الشبابية الثورية، إذ بدا الخطاب وكأنه يتبرأ من هؤلاء، بل أستطيع أن أقول إن ذلك للأسف الشديد أيضا قد امتد إلى الحركة الطلابية في الجامعات، ما حد من طاقتهم ومن حرية حركتهم في التفاعل مع الطاقات الشبابية الأخرى، وبات هؤلاء بين مطرقة وسندان: مطرقة الالتزام التنظيمي وسندان المطالب الثورية والتغييرية التي كانوا مشتاقين لها وتأججت بين حنايا صدورهم. لم تكن تلك إلا طاقات الأمل التي أسست لعمل في إطار بناء لمستقبل، ومرة أخرى تراكمت فجوة الأمل بين هؤلاء الشباب.
ومن المؤسف حقا أن التيارات المدنية التي رغبت دائما في تصدير شخوصها المحنطة وتكويناتها الحزبية المستقطبة؛ باتوا هم أيضا ضمن سياساتهم وخطابهم يحاولون السيطرة على شبابهم، يوجهونهم إلى افتعال صراع مزعوم بين القوى الشبابية المختلفة على قاعدة أيديولوجية عقيمة. ومرة أخرى أصيب الشباب بالحيرة؛ حيث وقع بين سندان جماعة ضيقة الأفق وبين مطرقة نخب محنطة آثرت أن تتصدر المشهد على حساب شبابها الناهض. وانتقل الشباب للأسف الشديد إلى دائرة الاستقطاب ومساحات تتعلق بالصراع المفتعل والمصطنع، ومثل هؤلاء ذاكرة تراكمت بين نخب اتسمت بالمدنية افتعلت مشاكل معينة وقضايا متنوعة بعناوينها الأيديولوجية المحفوظة لا لشيء، سوى أنهم كرهوا الإخوان أكثر مما أحبوا الوطن، وبين جماعة افترستها المقتضيات التنظيمية والحفاظ على التنظيم في إطار ما أسموه بالالتزام، ولكنه لم يكن في حقيقة أمره إلا قفصا حديديا أرادوا أن يفرضوه على شباب في حالة ثورية تنحاز أفكاره لمقتضيات الثورة والتغير ويعرفون أن انفتاح هذه الطاقات الثورية وتراكمها عبر الأيديولوجيات هو الكفيل للتمكين لهم والتمكين لحقيقة الثورة، وبات الجميع أسرى لشعارات التمكين الزائف؛ كل يدعي أنه يمكِّن الشباب وهو يبدد طاقاتهم وينحرف بمساراتهم؛ ولا يقدم لهم رؤية تناسب متطلبات التغيير أو تليق بالآمال التي زرعتها الثورة.
سلمت هذه الحالة في النهاية إلى حالة انقلابية، وبدا الشباب ضمن حيرته لا يقوم باختيارات حقيقية وفق أهدافه الثورية التي وضعتها ثورة يناير، ولكن افترق الشباب إلى أربعة أنواع، نوع جرفته سلطة العسكر وانحاز لمخططاتها بعد أن أسالت لعابهم، وهذه الجماعة شكلت فيما بعد ذلك حركة تمرد، أما الصنف الثاني فهو الشباب الذي تخندق وراء تكويناته التنظيمية والحزبية؛ كل يتحيز إلى فئته ضمن معالم الاستقطاب العقيم، وخاض هؤلاء معارك ليست لهم ولا من صنعهم، ولكنهم خاضوها ضمن أحوال حيرتهم.. هؤلاء مع فجوة الأمل؛ وصلوا إلى محطة الثلاثين من حزيران/ يونيو، مطالبين بإقصاء الإخوان عن الحكم والرئيس المنتخب عن سدة الرئاسة، بينما في مواجهتهم كان صنف ثالث تخندق، وباعتبارات الاستقطاب، في مسارب التنظيم للجماعة، وبات ينافح عنها في ما تصورها أنه معركة وجود. أما الصنف الرابع، فقد وصل إلى عتبات الإحباط حينما رأى الثورة وقد تسربت من بين يديه، وأن أمل التغيير أصبح بينه وبين الشباب الناهض أمد بعيد، وأن انقلابا يلوح في الأفق لتتدحرج مرة أخرى السلطة في حجر العسكر، فلا هو المستطيع لمنع ذلك ولا هو المتمكن لاستئناف ثورة، فكان الانقلاب الذي أراد في قصة أخرى تمكين الشباب على طريقته، في إطار عقاب جماعي، ليضرب شباب مصر وشباب الثورة بكل قوة ومن غير رحمة، من كل جنس ومن كل لون سياسي.. يعاقبهم على حلم الثورة وحال الأمل الذي حملوه، وتلك قصة أخرى راكمت فجوة الأمل وأحدثت شرخا كبيرا في المجتمع؛ فاستطاع أهل الانقلاب أن يؤسسوا لمجتمع الانقلاب الجديد، ولذلك قصة أخرى من المهم أن نقف عليها.