نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 20 سبتمبر 2018

نختتم هذا الأمر الذي يتعلق بمعالجة الفجوة الجيلية في هذه السلسلة من النقد الذاتي؛ بمقال يؤكد أن الثورة ترتبط بالجيل والجيل يرتبط بالثورة. فعملية التغير هي من المعطيات الأساسية التي تحركها عوامل مختلفة، من أهمها فكرة الجيل وتفاعلها في التأكيد على أن الجيل في حقيقة أمره هو من يحمل فكرة التغيير ورسالته، حيث أنه يمثل نصف الحاضر وكل المستقبل.

هذه الكلمات لا نقولها من باب البلاغة اللفظية، ولكنها تعبير عن حقيقة ديموغرافية وعن تلك السمات الشبابية التي تحملها المجتمعات العربية، وعلى رأسها المجتمع المصري. إن الجيل الذي حمل ثورة 25 يناير كان يؤكد أشواق التغيير، وهو بما يحمله من هذه الأفكار رغم بعض الإحباطات التي تثور هنا وهناك؛ لا يزال فيه من الشباب ومن الطلاب من يحمل زخم الثورة ويعتبر هذا الزخم فرصة يجب أن لا تفلت أو تنزوي، ذلك أن ما قامت به ثورة 25 يناير من فتح نوافذ التغيير أكدت أن أمر التغيير الكبير آت لا محالة، وأن عملية الإعداد للتغيير ممزوجة بوعي ومسارات التحريك وعمليات التثوير لهي من الأمور التي لا تزال تسكن معظم هذا الشباب، ليستقر ذلك في وجدانه، ولكن هذا كله لا يزال ينتظر مع بوادر الأمل شرارة العمل.

فالحال أن هذه الفئة العمرية كانت الأكثر تحملا لأشكال الغبن الاجتماعي والإقصاء السياسي فيما قبل الخروج الكبير إلى الميادين. ولم يتغير الحال إلى الأفضل فيما بعد الثورات، إذ بدت العلاقة بين النظم الجديدة وجيل الثورات علاقة مأزومة إلى حد بعيد، راوحت بين مغازلة المثل والقيم التي يتطلع إليها الشباب، وبين قهر تلك التطلعات تحت ركام الفشل ومرارة التجربة التي مرت بها الثورات. ورغم حدوث نقلة على مسار المشاركة الشبابية، فقد انحسرت موجتها سريعا، ليحل محلها عجز مركب، يعيق المؤسسات السياسية والاجتماعية عن استيعاب تطلعات الشباب وحيوية أفكارهم. وقد حاولت طروحات عدة تفسير هذا العجز عن إنتاج سياسات ناجزة لتمكين الشباب، وبينت صور وأنماط استبعادهم من دوائر الفعل السياسي، إلا أن كثيرا من هذه التفسيرات ارتد إلى تلك التخوم التقليدية، التي طالما عنت بالبحث عن “الاستقرار”؛ أي استقرار، والتي تنظر إلى الشباب بوصفه ظاهرة خطرة، تفتقد تطلعاته إلى التجربة. ليس ذلك فقط، بل أهملت عن عمد أو غير عمد أهمية تعزيز دور الشباب في دعم قضايا السكان والتغيير والنهوض، حيث أنهم يمثلون ثلثي الهرم السكاني، ويشكلون هبة ديموغرافية في مصر واجب استثمارها، إلا أن النظر إلى تلك الهبة من منظور الزيادة السكانية كإضافة سلبية في ظل رؤية “مالتوسية” في المشكلة السكانية، وفي سياق ردِّ بعض إخفاقاتها التنموية إلى مشكلة الزيادة السكانية، فلم تنظر أبدا إلى مجرى النهر السكاني كطاقة إضافية وإمكانية مضافة خاصة حينما تكون في معظمها طاقة شبابية ناهضة فاعلة، ولكن سياسات الحكم التي يمكن أن تحولها إلى فاعلية ظلت تنظر للأمر كعبء، ولم تقم وزنا لمعادلة الهبة السكانية، فظلت تتعامل معها في مساحات الإهدار لا الاستثمار، ومنطق الخطر لا حالة الفرصة.

جيل الثورة هو الجيل الذي قام بالثورة وأخذ زمام المبادرة لتحويل وبلورة عدة محطات خلال آخر عقد في حكم المخلوع مبارك، وترجمها على هيئة ثورة عارمة ضد النظام وأطاحت برأسه في 18 يوما، وخضعت لها أجهزة الدولة فلجأت إلى احتواء الشباب عبر مجموعة من العمليات الممنهجة لتفريقهم وتشتيتهم وبث الفرقة والاستقطاب فيما بينهم. وهذا الأمر مورس خلال فترة زمنية ممتدة من بعد خلع مبارك حتى الفض، ليتفاجأ هذا الجيل بصدمة كبيرة شلت بعض الشباب ثم تبعتها مجموعة من عمليات القتل الممنهج والتعذيب للشباب والقتل خارج القانون، واعتقال كل من يتجرأ على قول كلمة لا، وليس حتى الثورة. وهذا نشر بين فئة من الشباب الإحباط وكسر شوكة البعض، ولكن خفي على النظام والمستبد السيسي بأجهزته الأمنية القمعية الفاشية أن هناك ثورة أخرى قد حدثت، وهي دائما ما كان يخرج يتحدث عنها بقوله: “انتم فاكرين إن الحصل من سبع سنين هيتكرر ثاني!!”، متهكما ومثبتا أن ذلك لن يحدث ولن يعطي أي مجال لأن يحدث.

ونسي السيسي أن الثورة قد وقعت أصلا، وأن الأمر هي مسألة وقت. فــ”ثورة الجيل” هي تلك الثورة التي حدثت في نفوس أجيال من الشباب والأطفال الذين شاهدوا بأعينهم كيف أن الثورة نجحت وأسقطت مبارك، وذاقوا طعم الحرية وطعم الاستبداد، فأصبحوا يعون ويدركون ويميزون بين الحرية وبين الثورة. فالحرية هنا ليست أمنيات يتحدث عنها فلان أو علان، ولا كاتب هنا أو مفكر هناك، بل الثورة حدثت ووقعت أمام أعينهم. فكلمة تغيير ليست كلمة تحتاج إلى فك شفرة ولغز.

هؤلاء الأطفال الذين يتعمد النظام بتصدير السفيه وترميزه فيما بينهم ليفقدهم الثقة بأنفسهم، لكن لن يستطيع ذلك، فهم يدركون جيدا ويعون، هؤلاء الأطفال في عين النظام كما قالها شفيق “نوزع عليهم بونبوني”.. لم يقلها سهوا، بل هو فعلا يعبر عن كيف أن النظام ينظر لهذا الشباب على أنهم أطفال يوزع عليهم “البونبوني”، لكنهم  رفضوه وأطاحوا به في أيام.. هذا الجيل الذي شاهد الثورة وعايشها وهو صغير بعمر الخمس سنوات؛ أصبح عمره الآن 12 عاما، وهذا الطالب في المرحلة الإعدادية والثانوية أصبح شابا قويا يافعا وله طموح. إن قرابة الثلثين من المصرين هم شباب دون 35 عاما، وهذه دلالة على أن التغيير قادم لا محالة، وأن متطلبات هؤلاء الشباب، بداية من أبسط حقوقهم وحتى أحلامهم وطموحاتهم، ستتحول إلى ثورة لا تسقط فقط رأس النظام بل النظام كاملا.

إن أحد أهم الدروس التي تؤكدها ثورة يناير والمضادون للثورة الذين حاولوا تقويض الثورة من كل جانب وتفريغها من مضمونها بل ومحاولة تشويهها وطمسها ضمن عمليات تزييف كبرى؛ يحاول فيها المنقلب أن يهدم الشباب الحقيقي وثورته ويصدر ظاهرة زائفة في مؤتمرات شبابه وذريته من مخترعين محتالين على طريقة “الكفتولوجي” و”جهاز اللواء عبد العاطي”.. أن الظاهرة الشبابية لن تقبل بأي حال من الأحوال لا الاحتيال ولا التزييف.. هذا الدرس يعطيه الشباب عند كل حدث بداية من المقاطعة الانتخابية ليقدم أبلغ رسالة بأن ما يفعله المنقلب ليس هو نموذجهم، بل نموذجهم في الثورة والتغير، في النهوض والتأثير، في الكرامة والتقدير. إن شباب الطبقة الوسطى يعبر عن حركة متكاملة وممتدة، بل إن تواصل السلسلة الشبابية هو من أهم الأمور التي لا يُعرف فيها من يمثل الثورة؛ لأنه يعبر عن جيل متعدد وجيل متجدد، وربما ذلك يحيلنا إلى أن عملية التمكين الحقيقية للتغيير وللشباب معا لا يمكن أن تكون إلا باستثمار هذه الهبة الديموغرافية وتشكيل نخبة شبابية قادرة على أن تتصدر المشهد في التأثير والفاعلية. هنا فقط لن تكون هذه الفجوة الجيلية الذي يتلاعب بها المستبد ليقصي الشباب عن دائرة التدبير والتغيير والتأثير. إن درس الديموغرافيا يقول إن مشروع التغيير قادم لا محالة يحمله الشباب الذي يحمل أشواق دولة يناير ومصر الجديدة.