نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 25 سبتمبر 2018
في حديث الفجوات كانت تلك الفجوة التي تتعلق بهؤلاء الذين عارضوا الانقلاب من توجهات شتى، والذين أضير بعضهم وأدى ذلك – من خلال مطاردتهم – إلى تمركز هذه المعارضة في الخارج وانتشارها في كثير من بلاد الأرض.. حاول هؤلاء ضمن زخم مواجهة الانقلاب في بداياته أن يقوموا بجملة من الأعمال يحاولون فيها مواجهة هذا الانقلاب وكل سياساته، وانطلق هؤلاء يؤيدون حركة الداخل في مواجهة هذا الانقلاب لفترة ليست بالقليلة، اجتمع هؤلاء على بعض المبادئ وشكلوا تكوينات مختلفة، بعضها في الداخل وبعضها في الخارج، إلا أنها في النهاية لم تكن بأي حال من الأحوال بذلك التأثير الكافي لمواجهة هذه الحالة الانقلابية، وظل الكثير من هؤلاء يقومون بهذه المواجهة ضمن شعارات شتى؛ أهمها “الانقلاب يترنح”.. كان ذلك في حركة الزخم الأول، حينما ترافقت المعارضة في الخارج مع بعض حراك الداخل، ولكن ذلك ومع مرور الشهور والسنين لم يسفر عما تمناه هؤلاء في دحر ذلك الانقلاب.
وبرزت في النهاية فجوة أخرى اتخذت شكلا في التمييز بين معارضة الداخل ومعارضة الخارج. ورغم أن هؤلاء الذين يعارضون أو يقاومون الانقلاب في الخارج قد اضطروا إلى مغادرة وطنهم بعد أن صارت التهديدات بالنسبة لهم من جانب النظام الانقلابي تهديدات حالة ومتعينة، إلا أن استقرار هؤلاء في الخارج ظل يشكل بالنسبة لهؤلاء الذين يواجهون الانقلاب في الداخل حالة استطاع الانقلاب أن يوسع الشقة بين معارضة الداخل والخارج، في محاولة لتوجيه الإدانات لأي معارضة تأتي من خارج الوطن وتشكك في أغراضها وفي مواقفها، رغم أن إشكال الداخل والخارج على ما نراه كان ضمن ألاعيب النظام الانقلابي حينما قرر بآليات مختلفة أن يفرق شمل المعارضين في الداخل والخارج، وكان ضمن المعايير التي اعتمدها وغذاها أنه لا يحق لمن هم في الخارج أن يملوا أمورا فيما يتعلق بالداخل، وصار الأمر في عمومه نوعا من المناوشات بين مكونات المعارضة المصرية ومقاومة الانقلاب، وقرر النظام ضمن قابليات شتى تغذية اتساع هذه الفجوة؛ إلى أن استطاع أن يجعل تلك الفجوة حالة من حالات الانفصال بين معارضة الداخل والخارج.
وفي هذا المقام قام الانقلاب معتمدا على هذه التفرقة بمحاصرة الداخل بكل مكوناته؛ مستهدفا التوجهات الإسلامية في بداية أمره تحت عنوان مواجهة الإرهاب المحتمل، وقيامه بكل ما من شأنه التنكيل بكل من يشكل احتمالية للفعل والنشاط ضمن هذه التكوينات الإسلامية، معتمدا في ذلك على ما أسس من مناخ للكراهية وشيطنة “الإخوان”. ومن المؤسف أن تساير بعض القوى السياسة في الداخل باعتماد ذات الخطاب في تشويه هذه القوى الإسلامية، بل وفي اعتمادها ذات المفردات للمنظومة الانقلابية، وفي إطار من تراكم صناعة الكراهية التي أفضت في النهاية إلى تقسيم الوطن والشعب إلى أكثر من شعب، وذلك في إطار المقولة الشهيرة “أنتم شعب واحنا شعب”. بدا هذا واضحا بينا ضمن معادلة الاستقطاب أمرا خطيرا يؤسس لفجوات داخل معارضة واجتذاب قوى على حساب قوى أخرى، وأصبح رفقاء الثورة في الماضي فرقاء متنازعين. هكذا بدا الأمر، واستثمر هؤلاء كل وسيط للاستقطاب والكراهية بين “رفقاء الثورة والميادين الذين صاروا فرقاء”.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، ومع هذه الفرقة المصنوعة والمزعومة بدت عملية الاستفراد بقوى الثورة كل على حدة، مستخدمين ذات الصور المتبادلة بين هذه القوى التي اعتمدت طبعة الاستقطاب فيما بينها، واستهدف الانقلاب بعد ذلك كافة هذه القوى التي تمثل قوى إسلامية أو قوى أخرى من توجهات مختلفة، والتي اعتمدت رؤى متنوعة ولكنها – أي القوى الانقلابية – استغلت ذلك الصراع الداخلي قامت باستهداف هذه القوى واحدة تلو الأخرى.
كانت النتيجة ومآلات هذه السياسات والقابلية للاستقطابات أن استطاعت قوى الانقلاب أن تتمدد وتتمكن في مساحات تلك الفرقة، بحيث صارت هذه القوى من بعد ذلك هدفا خطيرا للمنظومة الانقلابية في عملية استهداف منظمة وممنهجة لكافة قوى الثورة، أو من شارك فيها من كل القوى أيا كانت اتجاهاتها، واستطاع الانقلاب مع ذاكرة الاستقطابات السوداء أن يبقي على حالة من الحروب الكلامية بين الرفقاء. وفي إطار من سلوكيات، تنصرف عن مواجهة الخصم الأساسي ممثلة في قوى الانقلاب والمضادين للثورة إلى حالة من التراشق أفضت إلى حالة من الصراعات المحتدمة. كل من هذه القوى يذكر الأخرى بأيامها السوداء، ويقفون عند حدود الأيام الملتبسة لتأجيج حالة الاستقطاب لتصل إلى ذروتها في أحوال من التشكيك والتبديد لكل القوى السياسية، وصارت تلك القوى الانقلابية في مأمن من خلال نقل صراعات هذه القوى بين بعضها البعض، لتشكل حالة استقطاب مزمنة وأمراض اجتماعية نفسية مستعصية، وبات الأمر يمارس في الداخل كما يمارس في الخارج.
ومن المؤسف حقا مع تصاعد حالة الاستقطاب والقابلية له؛ أن تزداد هذه الفجوات في ساحات المعارضة والمقاومة للانقلاب. ورغم أن هناك ألف سبب وسبب يستدعي توحيد هذه القوى المعارضة والمناهضة والمقاومة للانقلاب، خاصة مع ذلك الاستهداف الشامل لثورة يناير ومن أسهم فيها، وحتى هؤلاء الذين انخدعوا بالثلاثين من يونيو وساندوا الانقلاب في بواكيره، ثم أصبحوا محل استهداف للمنظومة الانقلابية من خلال نظام بوليسي فاشي، إلا أن هؤلاء ظلوا يصطنعون الحدود المادية والنفسية بين هذه القوى، حتى تبقي على اختلافها وفرقتها وتنازعها على الرغم من وحدة استهدافها، وبات مشروع الاصطفاف الذي نادت به قوى مختلفة في الداخل أو الخارج مشروعا محل استهداف من قوى مختلفة زعزعت الثقة أكثر فأكثر بين هذه القوى المختلفة والمستهدفة بأسرها؛ لمواجهة هذا الانقلاب الذي تحول إلى نظام فاشي استهدف الجميع وعموم الناس، واعتمد سياسة تخريب الوطن وتمزيق الشعب وصناعة الخنوع فيه، واعتماد استراتيجيات القطيع والترويع والتجويع.
ورغم كل ذلك، كان يمكن أن تكون هناك مساحات للالتقاء والعمل المشترك لمواجهة هذا الانقلاب، إلا أن هؤلاء انصرفوا إلى مواجهات بينية بددت الطاقات وشتت الجهود وفرقت الوجهات، وصار الأمر مع تلك الفجوات شأنا مستعصيا لم يعد فقط فرقة بين اتجاهات أيديولوجية وسياسية، ولكن أيضا بين داخل وخارج وبين إخوان ويسار وقوميين وناصريين وليبراليين، وغير ذلك، وبات هؤلاء يمارسون الحروب البينية، بينما يفلت الانقلابيون بمزيد من تمكنهم وقدرتهم على إدارة المشهد ضمن حالات تعبر عن معارك كلامية طاحنة، وعن مساحات فرقة قائمة، وعن سياسات لمواجهة الانقلاب لا تكافئ بأي حال من الأحوال قدرته على التمكن والإطاحة بكل القوى المعارضة والمقاومة والمناهضة للانقلاب، وظل الأداء المعارض محاصرا في الداخل وباهتا في الخارج.
إلا أن هذه الحال، مع وجود بعض المؤشرات الدالة على ضرورة الخروج من ساحات الاستقطاب ومساحات الفرقة، جعلت البعض يفكر في حل هذه الفجوات التي اتسعت، وتجسير كل ما يمكن تجسيره بين القوى المختلفة بدواعٍ أصبحت تفرض نفسها ضمن ذلك الاستهداف لكل صنوف المقاومة للانقلاب، والتي تؤشر على ضرورة مراجعة كل ما يتعلق بسد هذه الفجوة في حالة المعارضة بين توجهاتها المختلفة أيا كانت تلك المعارضة في الداخل أو الخارج. وبعد هذا الوصف لذلك الواقع المقيم، من المهم أن ننتقل إلى مقام التقييم لحالة المعارضة في الداخل والخارج، ومحاولة إيجاد مسالك متجددة وفعالة تؤكد أنه لا يمكن استئناف حالة جديدة من التغيير والنهوض إلا بالقضاء على كل المكامن التي تتعلق بتمكن فيروس الاستقطاب من هذه القوى المختلفة، إذ يعد ذلك الشرط الضروري واللازم للقيام بمواجهة هذه المنظومة الانقلابية في معركة النفس الطويل.. ونتناول ذلك في مقالنا القادم إن شاء الله.