نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 5 مارس 2019

في إطار قضيتنا الأساسية، فإن معركتنا في الدستور لا تتعلق بدستور بعينه ولا بنص دستوري محدد، ولكن هذه المعركة في الحقيقة إنما تتجه إلى كيف أن المستبد الطاغية يقوم بالعبث بأي قيم أو قواعد أو قوانين أو دساتير، وأنه لا يهمه كل ذلك، فإن ملك الدستور عصمة أو كان الدستور أبا للقوانين، فإن المستبد يضعه تحت قدميه ولا يأبه لذلك.. إنما هي رغباته التي تحدد كل شيء، وتخرج جوقة المنافقين والمطبلين التي تشكل بطانة له لتصنع الحالة “أحلام سعادتك أوامر”..

هكذا تسير المسألة ضمن صناعة الاستبداد، وتكريس مقولة السادة والعبيد. إنها العصابة حينما تختطف الدولة ومؤسساتها وتلوح بالسلاح في وجه كل من احتج أو قال: “لا”. وإن ما حدث من احتجاجات محدودة هنا أو هناك بعد كارثة القطار؛ إنما تؤكد فزع وهلع المستبد الطاغية وصحبه.. إنه لا يريد أن يستمع إلا لقولة “نعم”، ولا يريد أن يستمع أي صدى لكلمة “لا”، فهو في هذا يواجه هذا الاحتجاج بترسانة أسلحته؛ لا يفرق في هذا بين تظاهرة سلمية أو بين أي احتجاج من نوع آخر.. إنه لا يريد من الجميع إلا أن يسبّحوا بحمده، ويتحدثون عن حكمته وضرورة زعامته، وعن إنجازاته التي لم يسمع عنها أحد، فإذا أريد له أن يفصح عنها، فإنه يدّعي مراوغا أنه لا يريد لأهل الشر أن يعلموا عن إنجازاته تلك.. وإذا حدثت كارثة فإنه يلقيها، هو أو بعض من منافقي أقلامه، على من صنفهم ضمن أهل الشر، أو هم الذين يستهدفون النظام ويحرضون عليه..

صناعة المستبد

هي صناعة حقيرة لمستبد اغتصب السياسة وقتلها، لا يريد بأي حال من الأحوال إلا أن يستمع هؤلاء جميعا لهذا الذي جعله الله طبيبا على حد قوله.. “طبيبا للفلاسفة”، موجها إليهم من كل طريق أن “لا تستمعوا لأحد غيري”.. (ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد). 

هي صناعة حقيرة لمستبد اغتصب السياسة وقتلها، لا يريد بأي حال من الأحوال إلا أن يستمع هؤلاء جميعا لهذا الذي جعله الله طبيبا على حد قوله

إن رؤية لحقيقة الظواهر السياسية التي تتسم بالانسياب والتغيير الدائم؛ إنما تؤكد على ضرورة أن نخرج من قالب جامد يتعلق بالمواقف الحدية، أو تبني الموقف الواحد الذي لا يصيبه أي تغير، حتى لو كان ذلك لأهداف تكتيكية. كما أن هذه الظواهر السياسية لا تحتمل منطق تحكم القوة الواحدة المستبدة التي تفرض رأيها على الآخرين، فإن الاستبداد والطغيان لا يمكن أن يواجه باستبداد وطغيان في مواقف الحركة وبموقف واحد.. علينا أن نتفهم كيف يدار الصراع.

من الأهمية بمكان أن نستحضر كلمات أستاذي المرحوم الدكتور حامد ربيع؛ الذي كان دائما ما يردد على مسامعنا أن السياسة فعل ثوري كفاحي، والثورة فعل سياسي، ذلك أن في الحقيقة أن عمليات التغيير لا بد لمن يقوم عليها أن يتسم بالمرونة الكافية والقوة اللازمة والأفعال اللائقة، فيقوم بكل ما من شأنه أن يمكّن لخياراته وأن يوصل لأهدافه. لقد كان يوصي بأن على هؤلاء الذين يذهبون إلى مائدة التفاوض أن يخوضوا المفاوضة باعتبارها معركة، وعليهم أن يطلبوا السلام بعزة المنعة والقوة. فلا السلام انبطاح، ولا السياسة تراجع، ولا الثورة فعل أحمق. إنها أطر تتكامل في الوعي والسعي لتحقيق الأهداف وابتداع الوسائل وتعدد البدائل، فتعطي سعة للحركة والقرار والاختيار.

أطر تتكامل في الوعي والسعي لتحقيق الأهداف وابتداع الوسائل وتعدد البدائل، فتعطي سعة للحركة والقرار والاختيار

إدارة الصراع

هذا علم كان يسميه أستاذنا علم الحركة وعلم التدبير، استطاع أن يتعرف عليها ليس فقط من جوف علوم السياسة الغربية وتمثلها ولكن تعرف عليها أيضا من رحم الذاكرة التراثية الحضارية. قد يأتي اليوم لأتحدث عن أستاذي حينما أوصى بإدارة الصراع في إطار فن توزيع الأدوار وتبادل المواقف، والقدرة على إدراك الحراك بين المواقف في سياق كر وفر محسوب للوصول إلى الهدف النهائي. وفي هذا المقام، فإن المعنى الذي يتعلق بإدارة الصراع في معركة الدستور لا يقل أهمية عن ادارة الصراع في معركة الشرعنة، فالمستبد الغاصب لم يملك يوما شرعية ولم يحترم أبدا دستورا. هذا هو جوهر القضية في فضح هذا الطاغية وسياساته. 

إن نظرية الساقين التي تحدثنا عنها من قبل؛ لا بد وأن تتعرف على كيف تخدم السياسة الثورة، وكيف تخدم الطاقة الثورية السياسة، وكيف تترافق معارضة ومقاومة الداخل مع معارضة ومقاومة الخارج، وكيف يمكننا التفكير في المعركة ضد الاستبداد وضرورات تفكيكه، ومعركة البناء السياسي وضرورات صناعة المستقبل، وكيف تكون المعركة ضد الطاغية من خلال مناسبات هنا أو هناك؛ كمعامل للتدريب الاحتجاجي، حتى نصل إلى عتبة يوم الحشد الأكبر لاقتلاع نظام الطاغية، بل إن نظرية الساقين تقوم على ترافق بين معركة “لا” ومعركة “المقاطعة”. إنها معركة الرفض الكبرى للحراك بين الموقفين، يجب ألا نفرق كيف نعود إلى “لا” وكيف تعود “لا” إلينا، فالمقاطعة ليست إلا مقاطعة إيجابية ممتدة، تبدأ من الآن وتؤسس لفضح النظام وطغيانه في كل مقام وفي كل مقال وفي كل آن. ومعركة “لا” يجب أن تقترن بمعركة للضمانات، حتى نضمن أن “لا” هي “لا”؛ لن تتغير بتزييف النظام وتزويره، وأن الحراك بين “لا” والمقاطعة، أو بين المقاطعة و”لا” هو أمر مرهون بتطور المواقف. إن نجاح خوض هذه المعركة ضد الطاغية هو الذي يمكن أن لا يجعل المستبد في راحة أو في أمان، بل قد يضعه بعض الوقت في حرج، وربما في الزاوية.

إنها معركة الرفض الكبرى للحراك بين الموقفين، يجب ألا نفرق كيف نعود إلى “لا” وكيف تعود “لا” إلينا، فالمقاطعة ليست إلا مقاطعة إيجابية ممتدة، تبدأ من الآن وتؤسس لفضح النظام

تحريك اللامبالاة

إن المعركة ضد الطاغية تجعل من التعامل مع هذا الشعب ومع عموم الناس مسألة جوهرية، فالناس بمعاشهم هم الميدان الحقيقي، ويجب عدم ترك هذا الشعب نهبا لاستفراد المستبد أو جوقته المنافقة. إن هذه المعركة محاولة لتحريك شعب من دائرة اللامبالاة إلى حال الاهتمام، ومن معركة الوعي الاحتجاجي إلى حقيقة التغيير السياسي والجذري، ومن الانطلاق من حال العجز والشلل إلى صناعة السياقات وصناعة الضغوط وصناعة المساحات داخل مساحات السياسة. إنها إدارة للصراع بكل أشكاله وأنواعه، فالرفض آليات ومستويات وأشكال، والسياسة توزيع للأدوار، ومعركة الفضح للنظام والطاغية ليست أقل من معركة إلجائه إلى ركن الزاوية. وصناعة السياقات واستثمار مصانع الغضب إنما هي بداية عتبات التحريك والتثوير، وإدارة الصراع معركة كبرى لصناعة الظهير الشعبي، ومعركة النفس الطويل استراتيجية ممتدة تكون ساحتها معركة الدستور، مع الانتقال من معركة إلى معركة لتعقب نظام الطاغية؛ فمن معركة ضمانات إلى معركة استفتاء، إلى مواجهة التزوير وإدارة المعركة التي تتعلق باستخدام كل رمز للاحتجاج والمقاومة..

إن علينا جميعا أن نخوض معركتنا مع الطاغية.. “لا تيسّروا عليه طغيانه”، ولا تخوضوا معارك وهمية أو تراشقات جانبية، حينئذ فقط نكون قد فهمنا إدارة الصراع في معركة الدستور لمواجهة الطاغية.. إنها المعركة الأساسية.