نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 13 مارس 2019

تمر في هذه الأيام نسمات الثورات العربية، احتفالا ببعضها وذكرى ثورات أخرى مستجدة، وكذلك مرور مئة عام على ثورة 1919 كثورة شعبية حقيقية كان لها التأثير البالغ في تاريخ مصر.

من المهم أن نؤكد أن ثورة 1919، كذلك ثورة 25 يناير 2011، إنما تشكلان ثورتين شعبيتين في تاريخ مصر لا تخطئهما عين ولا ينكر لهما أثر. وفي هذا السياق، فإن هذه الثورات الشعبية الحقيقية لا يمكن أن تموت أثرا أو نتيجة، إذ تظل محفورة في الذاكرة مؤثرة في الكيان، قادرة على أن تشكل وعيا للإنسان. إنها حركة التغيير حينما تجعل من الإنسان مرتبطا بحقيقة التحرر والتحرير، والتعبير عن احتجاجه والتأكيد على آماله. هكذا تظل هذه الثورات معملا للشعوب حينما تحاول التعبير عن إرادتها المرة تلو المرة. ويرتعد من تلك الثورات الحكام المستبدون لأنها تعبر في حقيقة أمرها عن رفض كل ألوان العبودية، وعن طلب لا يمكن إنكاره على كل مسالك الحرية والتعبير.

ثورة 1919، كذلك ثورة 25 يناير 2011، إنما تشكلان ثورتين شعبيتين في تاريخ مصر لا تخطئهما عين ولا ينكر لهما أثر

مرت علينا في 9 آذار/ مارس الذكرى المئوية الأولى لثورة 1919، بقيادة الزعيم سعد زغلول، مؤسس حزب الوفد، والتي جاءت بعد سلسلة من الاحتجاجات الشعبية، رفضا للاحتلال الإنجليزي، واحتجاجا على سياساته القمعية، وتغلغله في شؤون الدولة، بالإضافة لإلغاء الدستور وفرض الحماية وإعلان الأحكام العرفية. إذ خرج الشعب المصري بكل طوائفه على تنوعها للتظاهر والاحتجاج، وكانت البداية حينما توجه كل من سعد زغلول، وعبد العزيز فهمي، وعلي شعراوي، بمساعدة حسين باشا رشدي رئيس الحكومة، لمقابلة المعتمد البريطاني السير ونجت، للحديث معه عن مستقبل مصر، وذلك في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1918، إلا أن هذه المقابلة قوبلت باستهجان ورفض شديد من قبل ونجت، وقال: “كيف سمح سعد زغلول وعلي شعراوي وعبد العزيز فهمي لأنفسهم أن يتحدثوا باسم الشعب المصري؟”، فكان هذا الاعتراض سببا في كتابة صيغة لتوكيل “الوفد” ليتحدث باسم الأمة لأكملها، وتم بالفعل توزيع العرائض في مختلف أنحاء البلاد، واستقبلها الشعب بأكمله بالترحيب والموافقة، على الرغم من مواجهة سلطات الاحتلال للحملات الواسعة للتوقيع، فلجأ الإنجليز إلى اعتقال سعد زغلول وصحبه ونفيهم إلى مالطا، الأمر الذي أشعل فتيل ثورة 1919، احتجاجا على الظلم والاستغلال والمصير الذي آل إليه المصريون المعبرون عن مطالب الشعب وأمانيه.

وحقيقة الأمر أن ثورة 1919 على سبيل المثال شكلت في كل حركاتها حالة شعبية كبرى، استطاعت أن ترفض كل صنوف الاحتلال والاستبداد في آن واحد، فعبرت عن طاقة إيجابية التف فيها الشعب حول قيادة حملت المطالب، وكان أهم ناتج لها هو الذي يتعلق بقدرة وإرادة الشعب على تشكيل حياة سياسية جديدة تمثلت في أهم دستور، وهو دستور 1923، ذلك أن تلك الثورات لا تزال موصولة ببعضها، تؤكد على معان شتى، أهمها إرادة الشعوب وقدرتها وإمكاناتها الكبرى، وهي ترد على كل هؤلاء الذين يدعون المرة تلوى المرة بأن تلك الشعوب لا تصلح لثورات ولا تعبر عن إرادة، وغير مؤهلة لأن تحكم نفسها أو تنعم بكل ما يتعلق بحياة سياسية في ظل حكم راشد وعادل وفاعل. ولذلك، فمن الأهمية بما كان أن نعرف أن الثورات قد تتوارى وتمر عليها السنون، وقد تحاصر ويلتف عليها المغرضون، وقد يحاول أن يستفيد منها أو يركبها هؤلاء الذين لا يشكلون الثورة الحقيقية أو ينتمون لها، ولكن تظل هذه الثورة بإلهامها في ذكرى هذا الشعب عملا إيجابيا يمكن أن يُحاكى ولو بعد كل حين، إنه قانون الثورات الذي يجب أن نتعامل معه في إطار استمرارية معامل الاحتجاج ومصانع الغضب وأشواق الأمل.

التقاء هذه الثورات ببعضها البعض، ولو في ذكرى واحتفال، هو علامة وصل واتصال وصلة، أيام تتحرك نحو أشواق الحرية ورفض كل عبودية

مثلما كانت ثورة 1919 ثورة شعبية حقيقية كانت ثورة يناير 2011 ثورة شعبية حقيقية، ليؤكد الشعب في مفتتح كل قرن أنه شعب لا يموت، وأن استلهام ثوراته الحية لا يمكن كذلك أن يموت، والتقاء هذه الثورات ببعضها البعض، ولو في ذكرى واحتفال، هو علامة وصل واتصال وصلة، أيام تتحرك نحو أشواق الحرية ورفض كل عبودية. فمن المهم أن نتذكر أن كلمة “لا” هي أول كلمة في الشهادة ومفتتحها، وأن آخر كلمة في القرآن كانت كلمة “الناس”. الثورة تقع بين “لا” و”الناس”، لتؤمن بمعنى إرادات الشعوب وتفتح كل طاقات الأمل والتغيير. وفي هذا المقام، فإننا ونحن نكتب عن تلك الثورات وفي مثل هذه السلسلة التي امتدت (سلسلة النقد الذاتي)، فإننا ندعو أهل الثورة أن يتمسكوا بكل ما يتعلق بمثل هذه الثورات في معارك شتى متواصلة.

إنها معركة الذاكرة التي يحاول البعض طمسها في السطور وفي التاريخ قبل أن يطمسها في النفوس والأرواح.. معركة الذاكرة معركة كبرى وتشكل أهم شروط الوجود الواعي وحق هذا الإنسان في الحرية والتحرير. وعمران الذاكرة لا يمكن بأي حال من الأحوال إلا أن يتشكل من خلال ناظم ما بين تلك الثورات الحقيقية، تلك الثورات التي قام بها الشعب عن بكرة أبيه ليعبر عن آماله في التغير والثورة. ولا بد أن تكون هذه الأحداث موصولة في النفوس وفي الأفعال وفي كل أمر يتعلق بالتعبير عن الإرادة. إن هذا الوصل في الذاكرة هو الذي يتيح لنا دائما في معركة تواجه هذا الطمس المتعمد؛ استعادة الذاكرة بكل عناصرها الحية وبكل معاركها الحقيقية في التحرير والتغيير.

لا بد أن تكون هذه الأحداث موصولة في النفوس وفي الأفعال وفي كل أمر يتعلق بالتعبير عن الإرادة. إن هذا الوصل في الذاكرة هو الذي يتيح لنا دائما في معركة تواجه هذا الطمس المتعمد؛ استعادة الذاكرة بكل عناصرها الحية

تتواصل معركة الذاكرة مع معركة المعنى والقيمة التي تشكلها هذه الثورات في النفوس، وما تحمله من كل الأشواق حول ترجمة القيم الأساسية إلى واقع يتعلق بحياة الانسان: العيش الكريم والكرامة والحرية الأساسية والعدالة في كل صورها، خاصة تلك التي تتعلق بالمعاش متمثلة بالعدالة الاجتماعية. إنها كل المعاني التي تتعلق بالقيم الكامنة في تلك الثورات، ولا يمكن لأحد أن يغيبها لا عن الذاكرة ولا يمنع إرادة الشعوب من الفعل.

ومعركة المعنى موصولة بمعركة المغزى، لتؤكد على أن الشعوب في إرادتها قادرة أن تفعل، وأن قدرتها في اجتماعها وفي تجمعها، وأن هؤلاء الذين دائما يتحدثون عن كاريزما هنا أو هناك أو نخبة لا يتفهمون هذه الحقائق الكبرى، بما يمكن تسميته بـ”كاريزما الشعوب” التي تؤكد اليوم تلو اليوم أن صمتها ذكرا وعبرة، وأن عملها إرادة وحركة. هذا هو الأمر الذي يتعلق بمعركة مغزى يجب دائما أن نستمسك فيها بالمعنى والأمل بأن الثورات الحقيقية حُق لها أن لا تموت في الذاكرة وفي المعنى والفكرة وفي المغزى والعمل والعبرة.

ها هي الشعوب تنتفض في السودان وتنتفض في الجزائر لتعبر بذلك عن معاني الثورة والتغيير والإرادة والتحرير، تعلن عن موجة ثورية جديدة

ومع تلك النسمات التي تتعلق بهذا الأمر وبتلك الثورات، تهب علينا نسمات مستجدة لموجة أخرى من ثورات الشعوب التي يتصور البعض أن عبودية تمكنت منها، وأنها لا تقوى على الحياة ولا على طلب الحرية أو أنها غير مؤهلة لذلك.. ها هي الشعوب تنتفض في السودان وتنتفض في الجزائر لتعبر بذلك عن معاني الثورة والتغيير والإرادة والتحرير، تعلن عن موجة ثورية جديدة، ولتؤكد أن ليس لتلك الثورات أن تموت في إرادة الشعوب ولا في نفوسها.

ها هو شعب الجزائر استطاع أن يحتج على استخفاف به حينما أراد هؤلاء من جنرالات يتحكمون في المشهد من وراء ستار؛ أن يقنعوه بأنه من الممكن أن يُحكم بصورة أو بجثة لا تقوى على الحركة. هؤلاء باستخفافهم هذا تحول إلى وقود ثورة وإرادة التغيير ليطلقوا صيحة إلى كل المستبدين: يا هؤلاء لا تستخفوا بإرادة الشعوب، إنها حلقة من حلقات التغيير لتعلن بشكل دائم هذا المعنى من التدافع العظيم، لتؤكد هذه الشعوب كل يوم “أن هذه الثورات الحقيقية لا ولن تموت”. إنها وصية مكرم عبيد متحدثا عن الثورة: “لن نقبل نحن أبناء الوادي العبودية المقنعة، أو الحرية المجزأة بعد أن علمتنا الثورة، والخبرة المُرة أن الحرية المغلولة ما هي إلا العبودية المعسولة، فإلى الأمام.. ثم إلى الأمام”.. كلمات حرة واصلة بين الثورة وأهلها، لمواجهة كل من استهدف الثورة وأهلها.