نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 3 أبريل 2019

ستون مقالة كاملة في سلسلة النقد الذاتي، تصورت في البداية أن أكتب ست مقالات فكانت ستين؛ طافت حول مفهوم النقد الذاتي، وأهميته وضرورات ممارسته على كل مستوى ومن كل جهة، واعتبرنا ذلك أولى علامات استدراك أي كيان على أخطائه، وبداية التفكير الصحيح بطرق أبواب المستقبل والتفكير فيه مليا واستشرافا يحدد مساراته والعمل فيها ولها، وصناعة ترسم الطريق لمستقبل أفضل لشعوب عبّرت عن إرادتها وعن أهم مطالبها الاستراتيجية؛ في العيش والكرامة الإنسانية والحرية الأساسية والعدالة الاجتماعية، ومؤكدة على “الشعب يريد”، كشعار يمثل الطلب على التغيير الجذري الأكيد والكبير. التغيير الشامل طريق التأثير الفاعل، ودرس للشعوب للتعبير عن قدراتها وضروراتها، وعن آمالها وأشواقها، وعن مطالبها وإرادتها.

كنت أنوي استكمال هذه السلسلة في المراجعة والنقد الذاتي بعد مجموعة من المقالات؛ أردت أن تكتمل الحلقة فيها بالتعرض لنقد الليبراليين، وكذلك موقف الأقباط وتأثيره على مشروع الجماعة الوطنية، أيضا الوقوف على مسالك ترشيد مسارات شباب حملة الثورة والتغيير؛ وقد سكنه ذلك حتى وهو في أضعف أحواله ما بين الإحباط والانكسار. وكنت بذلك أريد أن تكتمل حلقات النقد الذاتي، وكنت أعد لأن أكتب في تلك الموضوعات حتى تتم دائرة المراجعات.. 

لكن في حقيقة الأمر، ومع بروز الفرص الجامعة التي رأيتها مهمة ومواتية، وبعد نجاح حملات لكسر الخوف مثل “اطمن أنت مش لوحدك”، وكذلك ما يمكن أن يطرأ على هذه الحملات باتخاذ مواقف أساسية في مواجهة التعديات الدستورية التي يحاول السيسي تمريرها بجوقته في كافة المؤسسات التي اختطفها، وكان من جملة ما اختطف؛ الدستور ذاته والعبث به، فإنه كان لا بد لنا من أن نؤكد أن هذا المنقلب لم يحترم الدستور يوما ولم يقف عند نصوصه، بل بدا له أن كلمته هي الدستور، وأن أفعاله ومواقفه هي القول الفصل؛ في سياق يعبر فيه عن ذاته بشكل دائم، وعن تضخم وتورم سلطانه وطغيانه. فهو تارة “طبيب الفلاسفة” الذي يستمع له كل العالم، وتارة أخرى يطالب الجميع بأن لا يستمعوا لأحد إلا هو، ويحاول أن يثبت أن له من الإنجازات على الرغم من أن عمله ليس إلا سلسلة من أعمال عصابية؛ من قتل ومطاردة واختطاف قسري، ومن أفعال يندى لها الجبين؛ تشكل أقصى وأقسى الانتهاكات لحقوق الإنسان التأسيسية والأساسية والسياسية..

من أجل ذلك، قمت بالتعرض لتلك القضية في المقالات الأخيرة، والتي رأيت أنه أفضل ما يمكن أن يختتم بها هذه السلسلة في عمل إيجابي يدق ساعة التحريك؛ يستأنف الشعب فيها بعضا من احتجاجه، حتى ولو من خلال شعارات تنتصر على ما حاول السيسي اصطناعه؛ من جمهورية الخوف وتكريس عمليات التفزيع والترويع، ومحاولة تكريس عقلية القطيع، وممارسته سياسات الإفقار والتجويع.

كنت أريد بذلك أن نتجه من فعل النقد الذاتي والمراجعة الواسعة إلى استشراف المستقبلات البديلة الجامعة؛ التي تتحرك صوب استرداد الشعوب لعمليات تغيير والتعبير عن إرادة التأثير. ومن حسن الطالع أن تنتهي تلك السلسلة وقد بزغت في الأفق حركة تغيير واحتجاجات شعبية في السودان والجزائر، لتعبر عن حالة إلهام جديد تصر فيها الشعوب على وجودها وعلى نفاذ تأثيرها؛ كرقم لا يستهان به في معادلة التغيير الجذري الكبير.. إنها الشعوب وثوراتها، تعبر عن زخم الثورات وأشواقها التي لا تزال تسكن النفوس، وكذا إرادات الشعوب التي لا تزال تتحرك معبرة عن ذاتها، لتسترد مفاهيم احتجاج تستشرف حالة ثورية مستأنفة، موصولة بشعارات واستحقاقات..

الثورات هي صنعة الشعوب حينما تعبر عن إرادتها، وهي طلب للمعاش والعيش الكريم، لتعبر في النهاية عن حالة تشير إلى الإجابة على سؤال جوهري: كيف يحرس الشعب حقوقه وكيف يعبر عن إرادته؟ إن الثورات إنما تمثل في حقيقة الأمر “كاريزما الشعوب”، وميلاد جديد لها بالمعنى السياسي. الثورة فعل في قلب الحياة والمعاش، ولكل ثورة أسباب دافعة وفعل مكافئ وأصول للفاعلية. 

ورغم أن الثورات لا تُستنسخ وليس لها من موعد، إلا أن أحدا لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يصادر أشواقها ولا إشراقها. صحيح أن أحدا لا يستطيع أن يحدد لها موعدا، ولكنها من ناحية أخرى لا يمكن لمستبد أن يطمس زخمها وأشواقها، لنؤكد لكل مستبد أن الثورة ليست بإذنه.

ولا بد من التفكير في المستقبل والبحث فيه. ورغم أن صفقة القرن تطرق الأبواب، فإن التغيير الكبير الحادث لا محالة سيكون له من التأثير في مواجهة صفقة القرن، بملحمة قرن بدأت بمسيرات العودة؛ عودة الشعوب إلى مقاومتها وإلى حماية أوطانها، وإلى الدفاع عن إرادتها وحقوقها المغتصبة والمغصوبة.. التغيير الكبير في يوم الحشد الأكبر معركة نفس طويل؛ تؤكد على سداسية غاية في الأهمية لصناعة المستقبل والمشروع الوطني الجامع.

نخبة جديدة تلوح في الأفق، تخليقا وتصنيعا، وعقل استراتيجي تنبنى حركته وتأثيره وتدبيره على قاعدة من استثمار طاقات الأمة وقدراتها؛ في مشروع تغيير حضاري كبير قادر على الفاعلية والتأثير، واستراتيجية خطاب تتنوع في أدائها وتؤثر بمفرداتها وتستنفر كل طاقات التغيير في شعوبها، وخطة عمل تجعل من نظرية الساقين جامعة بين ساق ترتكز على عمل سياسي؛ وأخرى تؤسس وتحرك لحالة ثورية مستأنفة. وفي كل الأحوال، لا بد وأن يؤسس المستقبل على مشروع واعد لإعداد الكوادر القادرة على التعامل واستشراف المستقبل وصناعة الأمل فيه وله.. سداسية متكاملة تتحرك صوب استراتيجية شاملة؛ تؤسس لعمليات تغير جذري فاعلة.

إن المشروع الوطني الجامع آن أوانه دون إبطاء أو تأجيل، وليتعلم الجميع الدرس بأن الوطن الذي يحتوي الجميع لا بد وأن يحمل مشروعا جامعا وطنيا فاعلا، يقدّر أصول التعاقد وضرورات الاتفاقات والتوافق، ويتخلى عن كل ألوان الشجار، ويتوسل كل مسالك الحوار، ويبتعد ما استطاع عن كل مواطن الاستقطاب والتراشق، وصولا إلى حالة من الاصطفاف والتوافق.. عمليات بعضها من بعض، صارت من الضرورات الأكيدة، وصار الطلب عليها فرضا مفروضا وعملا مطلوبا، وهو ما يجعلنا بحق نطالب بأن يحمل هذا المشروع الجامع نخبة جديدة مستجدة..

إن النخبة التي شاخت وطالتها كل ألوان الفشل؛ لا يمكنها أن تسهم في صناعة النجاح والمستقبل بشكل مؤثر. ومن هنا، فإن النخبة الشبابية الواعدة هي القادرة على تصدر المشهد لجعل هذا المشروع الجامع أمرا واقعا، وتجعل من الشعب ظهيرا لها؛ تؤمن بأن مطالبه ضرورات، وبأن معاشه الكريم من البديهيات.. نخبة تتحرك إلى الشعب ولا تنادي عليه، تتخذه ظهيرا ولا تفرط فيه. إن النخبة الجديدة صارت من ضرورات هذا المشروع الوطني الجامع، من دون أن نهمل أو نغفل شرفاء النخبة السابقة الذين يجب عليهم أن يتأخروا خطوات؛ داعمين لنخبة شبابية صاعدة هي الكفيلة بإحداث قدر من التحريك والتشبيك والفاعلية في التغيير والتأثير.

وإن من ضرورات بناء المستقبل عقل استراتيجي آن الأوان أن يشكل رؤية واضحة واعدة للتغيير الكبير، والمشروع الذي يجب أن تحمله الأمة.. هذا العقل الاستراتيجي لا بد وأن يؤسس لاستراتيجية خطاب جامع شامل متنوع الأداء، يتوسل كافة المسالك، ويستهدف كافة التكوينات.. يتوجه بخطابه لكل المؤسسات، ويخاطب الشرفاء فيها ليجعلهم في خندق واحد لحمل مشروع يحمي الوطن ويؤمن المواطنين.. إنها استراتيجية خطاب مشفوعة بخطة عمل تقف على ساقين: ساق ممارسة السياسة كعمل ثوري، وأخرى تعمل للثورة باعتبارها عملا سياسيا وتغييرا جذريا.. السياسة ليست خصما من الثورة، بل هي داعمة لها، والثورة لا يمكنها أن تستبعد السياسة ما كانت خادمة لها. وفي كل الأحوال، فإن إعداد كوادر من الشباب تحمل على عاتقها بناء دولة يناير.. تحمل أهدافا في داخلها وتؤسس لاستراتيجيات التغيير في أوطانها.. إنها استراتيجية المستقبل.

وأقول في نهاية هذه السلسلة التي سنستأنف غيرها؛ إن هذه الدعوة في المقالات الستين تؤكد لكل هؤلاء الذين لهم سهم في ثورة يناير وأسهم في ثورة مستأنفة: مارسوا النقد الذاتي يرحمكم الله.