نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 12 نوفمبر 2019
تذكرت حينما شاهدت هذه الصور المتتابعة حول السجون المصرية ومحاولة الإيحاء بأن هذه السجون هي بمثابة فنادق 5 نجوم، رغم تلك التقارير الدولية التي تشير إلى سوء الأحوال في تلك السجون، بل وتحول مصر بأسرها إلى سجن كبير حتى استحقت مصر وللأسف في عهد هذا النظام الفاجر ومنظومة السيسي المنقلب أنها مصر المحبوسة.. تذكرت كتابا لواحد من أهم علماء السياسة في الولايات المتحدة الأمريكية استطاع أن يؤسس لمدرسة مهمة، وهو تيموثي ميتشل الذي ألف كتابا بعنوان “استعمار مصر” (تُرجم إلى العربية) وصدّره بفكرتين غاية في الأهمية:
الأولى: أن الدولة في مصر والدول القومية في غالب البقاع التي شابهتها؛ لم تنشئ دولة عصرية حديثة، ولكنها في حقيقة الأمر أنشأت دولة مركزية حديثة، هذه الدولة المركزية حاكت دولة الاستعمار في إدارتها للبلاد والعباد.
الثانية: إنما تشير إلى أنه ضمن أدوات تلك الدولة في إدارتها، فإنها قد قامت باستخدام آلية المعرض وآلية التمثيل. التمثيل هنا بمعنى لعب الأدوار كأننا في تمثيلية على خشبة مسرح.
ضمن آليتي المعرض والتمثيل حرص المستبد مع منظومته على أن يشيد صورة كاذبة حول نظامه؛ تحاول أن تخفي قبح عمله وسوء سياساته ومظاهر طغيانه وحقائق استبداده، وقام بصناعة مشاهد أقرب لصالة العرض وخشبة المسرح التي تفترض حالة تمثيلية زائفة.
بات هؤلاء المستبدون من العسكر يدركون قيمة هذه المسألة حينما يقومون باحتفالات واسعة وبمناسبات متعددة، وأنهم بذلك يحاولون صناعة المشهد وأخذ “اللقطة” في إطار ما عبر عنه أحدهم في المجلس العسكري بعد ثورة يناير “نأخذ اللقطة، ونلبس الشعب العمة”، كناية عن الضحك على الشعوب والسخرية منها، بافتعال مشاهد مصطنعة زائفة تقلب الواقع وتحاول أن تجلب التصديق وتصنع حالة من الرضا الكاذب.. لعبة دعائية وإعلانية مفضوحة يقوم بها هؤلاء بصورة ممجوجة وبشكل مفضوح لا يعبر إلا عن قمة استخفاف هؤلاء بعقول هذا الشعب، أو بمحاولة تجميل صورتهم القبيحة بين المعرض الزائف والتمثيل باصطناع المشاهد المزورة والكاذبة لتبدو الصورة وتؤخذ اللقطة.
صدر تقرير أممي كان بمناسبة ظروف احتجاز الرئيس المصري الأسبق الشهيد “محمد مرسي”، والذي أكد على ظروف احتجاز الرئيس في ظروف يمكن وصفها بالوحشية، وخاصة سنوات اعتقاله الخمس في سجن طرة. وأكد التقرير أن مرسي لم يحصل على العناية اللازمة كمريض سكر وضغط دم، وفقد تدريجيا الرؤية بعينه اليسرى، وعانى من إغماءات متكررة. وأكد هذا التقرير الأممي أن الرئيس مرسي كان يقضي 23 ساعة يوميا في حبس انفرادي ولا يُسمح له بلقاء آخرين أو الحصول على كتب أو جرائد.
وحينما سئلت مقررة المفوضية السامية لماذا أصدرت التقرير في هذا التوقيت، أكدت أنها فعلت ذلك من جراء الانتهاكات الحقوقية المستمرة بحق المعتقلين في سجون مصر بطولها وعرضها، وكأنها نهج لنظام عبد الفتاح السيسي ضد خصومه. وأكدت أن لديها ولدى المفوضية التي تترأسها أدلة من مصادر عدة تفيد بتعرض آلاف المعتقلين بانتهاكات حقوقية، مما أدى إلى تعرض حياة بعضهم ووجودها في حالة خطر.
المهم في هذا التقرير أنه وفق استنتاجاته، فقد أشار لقضية مقتل الرئيس محمد مرسي من قبل خبراء مستقلين في الأمم المتحدة، وأن مصلحة السجون المصرية ربما قد تسببت بشكل مباشر في وفاته، وأن هذا الوضع الذي اتسمت به الممارسات كنهج قد عرّض حياة الآلاف من السجناء الأخرين للخطر الشديد والموت المحقق.
هذه النتيجة المهمة إنما تؤكد على هذه اللقطات المصطنعة ضمن أفلام هابطة في زيارة النيابة للسجن، وما قام به هذا النظام الفاجر في التعامل مع المعتقلين ليجعلهم أمثولة ضمن عملية ترويع كبرى؛ فقام، كعهده ضمن نظرية المعرض والتمثيل، بمشاهد معهودة ومفضوحة؛ تتعلق بدهان الحوائط والأرصفة والشجر، وصور أخرى تلتقط لطباخ (شيف وكأننا في فنادق خمس نجوم) يقوم بشيّ اللحوم. ما هذا الاستخفاف السافل والهابط الذي يعبر عن قمة انحطاط هذا النظام الفاجر ومؤشرات إفلاسه؛ حينما يريد أن يجمل وجهه القبيح وقد حول مصر إلى سجن كبير؟ ما بال هؤلاء يخرجون علينا بزبانية إعلامهم وإفكهم ليقدموا تلك الصورة الزائفة والمزورة وفق نظريتي “المعرض والتمثيل”، ليؤكدوا أن سجون مصر إنما تشكل مأوى فندقيا لهؤلاء المحبوسين والمعتقلين؟ يا لوقاحتهم!!
هؤلاء يتجاهلون تقارير أممية من منظمات حقوقية للأمم المتحدة، وكذلك منظمات غير حكومية أكدت على انتهاكات تتعلق بالاختفاء القسري والقتل خارج إطار القانون، والموت البطيء بالإهمال الطبي المتعمد، والموت تحت التعذيب.. كل ذلك شكل سياسات ممنهجة ومنظمة ومتكررة يحاول النظام أن يخفيها، وهي أفضح وأوضح من أن تخفى أو تؤثر عليها أساليب اللقطات الزائفة. ويتغافلون عن بيان صدر من “البرلمان الأوروبي” عن حالة حقوق الإنسان في مصر، يوصي الدول الأوروبية بمراجعة علاقاتها مع نظام السيسي. ويا لسخرية الصورة.. يدفعون البرلمان المصري برئاسة علي عبد العال ليصدر بيانا مستخفا خفيفا مضحكا؛ يعلن فيه مجلس النواب ممثلا برئيسه الهُمام إدانة البيان الأوروبي بأشد العبارات، مؤكدا رفضه للبيان جملة وتفصيلا باعتباره صادرا عن طرف غير ذي صفة للتعليق على هذه المسألة، وأنه يمثل استمرارا لنهج غير مقبول من القرارات المشابهة التي لا يعيرها مجلس النواب أو الشعب المصري أي اعتبار، مواصلا بلطجته واستخفافه قائلا..
من أين أعطى البرلمان الأوروبي لنفسه الحق في تقييم الآخرين؟ بينما كان الأولى به أن يركز اهتمامه على دول الاتحاد الأوروبي وما يشوب حالة حقوق الإنسان (هكذا) فيها من نقائص، ما أكثرها، ويراها القاصي والداني.. أي والله!! ونفر الزبانية، ومنهم نقيب الصحفيين الذي يشغل في ذات الوقت منصب رئيس هيئة الاستعلامات، ليحسن صورة مصر أمام الصحفيين والمراسلين من الخارج، وقبله وفد من نيابة أمن الدولة العليا، والأسبوع الماضي وفد من المجلس القومي لحقوق الإنسان والنيابة العامة، قبيل مناقشة المراجعة الدورية الشاملة لمناقشة ملف مصر، حيث يتوقع وفق مؤشرات أولية أن تكون فضيحة لمصر. هكذا تتوالى مشاهد مسرحية هزلية تعبر عن قمة الاستخفاف والأداء الهابط.
أقول لهؤلاء الذين يتحدثون كذبا وزورا وافتراء عن فضل السجون المصرية وعن مواصفاتها الفندقية؛ إنكم يوما ستحلون بها من جراء ما ارتكبتموه، ومحاسبة وعقابا على أفعالكم المشينة والمنحطة في الترويج لنظام فاجر، لتنعموا بمثل ما ينعم به هؤلاء المعتقلون الذين تفنن هذا النظام المنقلب الفاجر الفاشي في إذلالهم ومحاولة تكميم أفواههم.
إننا ومن خلال تقارير متواترة عن حال السجون المصرية في عهد السيسي المنقلب، بل وما قبل ذلك، نتساءل: لماذا أكثر من 60 ألف في السجون؟ وأن بعض هؤلاء الذين يقبعون في الزنازين كانت تهمتهم (وفق التقارير الأمنية) تكوين خلية للأمل؟ وأن سجونا قد شُيدت أسموها “سجن المستقبل”؟ وأن تهما ملفقة بمعاونة تنظيم إرهابي على تحقيق أهدافه على حد تعبيراتهم الأمنية؟ اتهامات باطلة لا يمكن قبولها في ميزان العدل والعدالة؛ لأنها لم تكن إلا تبريرات فاضحة لاستبداد النظام وطغيانه، ولا يُمكن أن تُجمِل قبح سياساته وأفعاله..
مثل هذه اللقطات والمشاهد احترف النظام تزييفها ضمن خطته الأبدية في التزوير بـ”أخذ اللقطة وتلبيس العمة”، على حد تعبير أحدهم.. أقول لهؤلاء إن نهاية هذا النظام قد باتت وشيكة، وأن هؤلاء المعتقلين إن شاء الله سيكونون على أعتاب حرية وتغيير لا يمكن أن يتوقف حتى تعود مصر مرة أخرى مصر التغيير..
مصر المحروسة تنفض عنها لباسا ألبسه الطاغية لها قسرا، فجعلها “مصر المحبوسة”.