نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 19 نوفمبر 2019
في عقود ماضية كانت القضية الفلسطينية تحتل المكانة الأولى، وكانت تتخذها أنظمة الحكم العربية غطاء لبعض من شرعيتها؛ ذلك أن وزن أي قائد عربي كان بمقدار ما يتمسك به من قضية فلسطين وحقوقها المغتصبة في مواجهة هذا الكيان الصهيوني المحتل. وكان المقصود بذلك كحالة عربية تجعل من الصراع العربي الإسرائيلي صراعا وجوديا وحضاريا ومصيريا.. هكذا علّمنا أستاذنا الدكتور حامد ربيع حول طبيعة هذا الصراع.
ورغم ما اتسم به كثير من قادة العرب بممارسات استبدادية، إلا أن الشعوب قد تجاوزت عن هذه الخطيئة الاستبدادية حينما عبرت بعض تلك القيادات عن مواجهاتها ومقاومتها لهذا الكيان، وعن وقوفها دعما ومساندة وتبنيا للقضية الفلسطينية. وها هي الجامعة العربية في ذلك الوقت تتخذ من القرارات، وتؤكد على توصيات فتجعل من تلك القضية قضيتها الأولى. هذا منذ عقود، ومع ذلك فقد كانت المواجهة أقل تكافؤا مع ذلك الكيان الصهيوني، حتى صارت مستحيلات هذا الكيان ممكنة وممكنات العرب مستحيلة، فأدى ذلك إلى اختلال معادلة الصراع العربي الإسرائيلي.
هذا الاختلال الذي أصاب الصراع العربي الإسرائيلي؛ جعله يتدهور على مستوى الأوصاف التي تعلق بها. فهو في البداية “صراع أمة”، ثم “صراع عربي إسرائيلي”، ثم “صراع فلسطيني إسرائيلي”، ثم “نزاع عربي إسرائيلي”، ثم “نزاع فلسطيني إسرائيلي”.. هكذا حُجمّت كلمة الصراع لوصف هذه العلاقة بالكيان الصهيوني وحجمت دائرته، وبعد أن كان صراع الأمة انحسر إلى نزاع إسرائيلي فلسطيني.. معادلة أصابها الاختلال، ما قزّم من القضية الفلسطينية وجعل هذا الصراع هامشيا بين فئتين لا بين وجودين، وأسهم في ذلك الانتشار الذي يتعلق بمفهوم الشرق الأوسط مقابل مفهوم العالم الإسلامي والعالم العربي؛ للتعبير عن مفهوم جغرافي يسمح بدخول إسرائيل ضمن هذه المنظومة ويفتت تلك المنظومات التي تتعلق بعالم الإسلام وعالم العرب ودولهما، واستقر هذا المفهوم في الاستخدام ليشكل تبنيا غربيا أمريكيا يجعل لإسرائيل مكانا مأمونا محميا لدولة اصطنعها الغرب لتحقيق أهداف استراتيجية؛ ضمن معادلة تؤكد على حضارة غالبة هي حضارة الغرب، وجماعة وظيفية تتمثل في الكيان الصهيوني.
ومن المؤسف حقا أن تتدهور الأحوال مع مر العقود لتأتي تلك الأحداث التي تتوالى كل فترة من الزمن حينما تقوم إسرائيل وفق أهداف هذا الكيان المصطنع بعمل عسكري يؤكد تفوق هذا العدو على كل المنظومة العربية. تكررت المعارك واستمرت النكبات إلى أن وقعت الواقعة التي تمثلت بنكسة في عام 1967، لتؤكد على مثل هذا التفوق الإسرائيلي بسند غربي وضمن معادلات قوة مصنوعة ومصطنعة.
وضمن هذا المناخ بات قبول وجود إسرائيل واقعيا أمرا يستجدي قبولا واعترافا رسميا، وتطورت الأمور في علاقات مؤسفة لتحقيق معنى السلام؛ الذي لم يكن في هذه الفترة إلا “سلاما إسرائيليا” بالشروط الصهيونية. أخطر ما في هذه الرؤية أن إسرائيل التي امتنع تسربها في جسد الكيان العربي رغم تفوقها إلا بالاعتبار الذي يتعلق بوصفها كيانا مغتصبا محتل؛ صار الأمر على غير ذلك، وبدت التحولات الدرامية في هذه العلاقات كأمر خطير تهرول فيه دول عربية نحو إسرائيل في الخفاء ومن دون إعلان، وباستجداء حال سلام مع معتد غاصب أثيم.
ثم كانت تلك الحوادث التي تكررت من اعتداء إسرائيل وعلى غزة وعلى قيام الانتفاضة الفلسطينية، والتي شكلت في حقيقة الأمر حالة ابتكار في المقاومة ضمن انتداب عناصر مقاومة لمواجهة هذا الكيان الصهيوني وتوسعاته الاستيطانية، رغم أنه حاول المرة تلو المرة أن يحقق ذلك الأمن الصهيوني من كل طريق، تارة بالتفوق في السلاح وتارة بصواريخ باتريوت، وتارة أخيرة بقبة حديدية لاصطياد صواريخ المقاومة.
وفي ذلك الوقت هوّم من هوّم، وتحدّث من تحدّث بكلام كله يقع في دائرة التخذيل، بل وإدانة المقاومة. وانتقلنا إلى مرحلة أخطر ما تكون ومحطة أحقر ما يمكن أن توصف، إذ قام هؤلاء بإدانة المقاومة وبدعم إسرائيل، ولم يعد حتى الشجب والكلام هو عنوان ما يمكن أن يستخدمه من سُموا بزعماء العرب أو مؤسساتهم ممثلة بالجامعة العربية، فتوقف هؤلاء جميعا عن الكلام ولاذوا بالصمت المتواطئ؛ وتوددوا لإسرائيل في السر والعلن، وأطلقوا جيشا من المتصهينة العرب يبررون ويمررون ويزورون كل الحقائق التي تتعلق بالمحتل الغاصب والمقاوم الشريف؛ فصار المحتل محل إعجابهم والمقاوم الشريف محل إنكارهم واستنكارهم.
ومن المؤسف حقا أن نرى بعض هؤلاء من بني جلدتنا، ويظهر بعضهم يتكلمون بلسان عبري يؤيدون ويقومون بدعم إسرائيل وبالدعاء لها أن تنتصر في معركتها على الفلسطينيين وأهل غزة. إلى أي حد وصلنا وإلى أي موقف بات البعض يكرره فاجرا معلنا لا متخفيا أو كامنا؟ ليس فقط على مستوى الأفراد، ولكن أيضا على مستوى الدول والقادة والمؤسسات العربية. هؤلاء الذين امتشقوا كل أسلحة الغضب في مواجهة ما أسموه بالغزو التركي، ناموا بل ماتوا حينما ضُربت غزة منذ أيام، وهم في حقيقة أمرهم قد ناموا وماتوا من قبل حينما انتهك المسجد الأقصى كل نهار بجحافل المستوطنين، ولا من كلمة أو تعقيب أو موقف إلا أن تخرج علينا تلك المواقف البائسة الفاجرة التي تتحدث بلسان بني صهيون، فهؤلاء يقومون بكل أمر يمكن للعدو الغاصب المحتل.
عليك أن ترى ذلك وأنت في حسرة شديدة على ما آلت إليه الأمور. ورغم أن هذه الفئة الظاهرة القادرة المقاومة قد انتدبت عن الأمة لأداء وظيفة المقاومة عن حياض الأمة حيال هذا الكيان الصهيوني الغاصب؛ بعد أن ضعفت الأمة وتداعى عليها الأكلة كما تتداعى إلى قصعتها.. حالة غثائية يمثلها هؤلاء، من ضعف وعجز، بل وذلة واستكانة وهوان ومهانة، وأخطر من ذلك أن نجد بيننا من يقف في صف العدو في مواجهة هؤلاء الذين يمثلون شرف المقاومة وعز الأمة وشرفها.. ألا خابوا وخسروا.. خسروا معنى الإنسانية حينما نجد في بلاد الغرب من ينتفض من أجل فلسطين والفلسطينيين، خابوا وخسروا حينما يعبر هؤلاء عن حالة من الحقارة والدناءة فيتحولون الى أبواق لعدو، ويطلقون سهامهم على المقاوم.
ومن هنا قامت إسرائيل استخفافا باستهداف بعض قادة المقاومة؛ ثم قامت بتصعيد عملياتها في محاولة للهروب من وضع سياسي مأزوم داخل الكيان الصهيوني، ليشكل ذلك حالة ضعف بادية في ذلك الكيان بعد انتخابين ونحن على أعتاب الثالث.. وبعد فشل هؤلاء الذين يقودون الكيان الصهيوني في تشكيل حكومة، هذا ديدنهم يفتعلون المعارك والقتال حينما تطولهم الأزمات، فلا يقوون على التعامل معها إلا باستهداف الطرف الأضعف والحلقة التي في متناول أيديهم وبطشهم، ولكن.. إنها المقاومة حينما ترد على هؤلاء فيختبئون في الملاجئ وتتعطل حياتهم وتفعل كل ما يتعلق بإيلامهم كما يألمون.. حينما تقوم إسرائيل بقتل عائلة كاملة مكونة من ثمانية أفراد بأسلحتها الباطشة، ولكن تظل المقاومة في عنفوان ردها حالة توازن؛ لا يملك الصهاينة والمتصهينة إلا أن يهونوا من أمر المقاومة أو يستهدفونها زعماء وأفراد.
من المؤسف حقا أن يكون هذا الموقف من شرفاء يقاتلون من أجل كرامتنا، فيقوم البعض منا بتأييد عدو غاصب والإنكار على مقاوم شريف. ما هذه الخساسة؟ ما هذه النجاسة؟ يحاول هؤلاء من المغتصبين أو المتصهينين؛ من كل طريق أن يكتبوا شهادة وفاة الأمة.. هيهات هيهات إنها المقاومة تخرج كل مرة تعلمنا الدرس وتظهر العجز البادي في أنظمة حكمنا؛ وتكشف وتفضح هؤلاء المتصهينة.. ولا نملك إلا اعتذارا واجبا عن هؤلاء الذين يمثلون دونية وغثائية هذه الأمة بما يقولون وبما ينكرون، وفخرا بشرف المقاومة وعزها.. يا نكرات الأمة على من تنكرون؟.. وقد آثرتم أن تخلدوا إلى الأرض وتنبطحوا انبطاحا استراتيجيا، أنظمة ومؤسسات وحكاما، أمام عدو غاصب.. ألا سحقا لكم، فلتذهبوا إلى جحيم الذل والمهانة؛ ولتكن المقاومة عنوان كرامة هذه الأمة والطائفة الظاهرة المبهرة عزا وكرامة، فتؤكد أن هذه الأمة بما تمثله من قيم المقاومة والشرف لن تموت.