نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 11 نوفمبر 2020

من الجدير بالذكر أن الانتخابات تعد واحدة من أهم الحقوق السياسية التي ترتبط بالمواطنة، وأن تلك الانتخابات تعبر عن حق تأسيسي للإنسان ضمن ممارساته السياسية حينما يختار من يحكمه أو يسهم في حكمه في دوائر متعددة.

تتم الانتخابات باعتبارها علامة للتعبير عن الآراء والمواقف حيال خيارات معينة، ويقوم المواطن ضمن هذه السياقات بالتصويت لشخص أو لبرنامج أو لأي شأن يتعلق بمسألة الاختيار والخيار، ومن ثم تعد الانتخابات قرارا فرديا في سياق إحدى الآليات المهمة التي ابتدعتها العمليات الديمقراطية.

وتشكل الانتخابات ضمن هذا التصور لحظة نماذجية تدل في الواقع على شكل النظام وعلى العلاقة السياسية فيه، وعلى مكانة المواطن منه والاعتداد بخياراته التي يقوم عليها، حتى تتجمع جملة الأصوات في عد يؤشر في الحقيقة على تراكم الأصوات، فيكون ذلك دلالة على اختيار جمعي في ما يسمى بعملية “التصويت”.

بين الانتخابات والتصويت والمواطنة علاقة أساسية تعبر في حقيقة الأمر عن الرضا والاختيار، والتعبير عن الرأي وتحديد المواقف. الانتخابات كلحظة نماذجية، تكشف حقيقة النظام السياسي وتقديره للعملية الانتخابية ومدى اتسامها بالنزاهة والشفافية في كافة مراحلها، بما يجعل الانتخاب معبرا عن حالة من الرضا والاختيار.

الانتخابات كذلك تتعلق بظاهرة السلطة وممارساتها، بما يجعلنا نؤكد على البيئة التي تحيط بالعملية الانتخابية باعتبار أن سياقاتها هي التي تسمح بإجرائها على نحو سليم، بما يعبر عن حقائق الاختيار القويم. ومن هنا، فإن سياقات العمليات الانتخابية والتعرف عليها يسهم في تحديد هذه اللحظة الانتخابية النماذجية ويحدد خصائصها.

ضمن هذه الرؤية يمكن أن نقارن بين لحظة انتخابية في الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة الأمريكية، ولحظة أخرى في الانتخابات البرلمانية في النظام المصري.

أستطيع أن أقول ونحن نسترجع شطر البيت الذي أكد عليه الشاعر السياسي أحمد مطر: “في بلادنا مواطن أو سلطان ليس لدينا إنسان”، وهو ما يشير في حقيقة الأمر إلى سياقات المواطنة وما يرتبط بها من مؤشرات كاشفة ضمن تلك العملية الانتخابية في لحظتها النماذجية التي تدل عليها.

فأحمد مطر يطالب منذ البداية أن نقف عند خط الإنسانية والأخلاقية التي تتعلق بالتكريم الإنساني فيجعل من السلطان إنسانا ومن المواطن إنسانا، في إطار من المساواة الابتدائية في الإنسانية والقيم التي المرتبطة بها.

إذا اعتبرنا ذلك، فإن المواطن في بلادنا في حقيقة الأمر هو دون الإنسان، إلا أن أنظمتنا الاستبدادية تنظر للمواطن باعتباره في مقام العبودية؛ تفعل به السلطة كل ما تريد وبأي شكل تريد. المواطن لديها يُؤمَم ضمن ما تؤممه السلطة، والعقود التي بينه وبين السلطة تتخذ في جوهرها شكل عقود إذعان، لا تمثل الكيان أو الإنسان المكرم.

ولكن بهذا التصور يجب عليه أن يتحسب لبطش السلطة فيعيش خائفا مذعورا خانعا ذليلا، يتلقى من السلطة كل القرارات الظالمة بكامل الإذعان والخضوع. تخلع السلطة في ذلك الوقت وصف “الرضا”، وهو في الجوهر ليس إلا “الرضا الكاذب” الذي يصنعه الاستبداد والطغيان، فيقر المواطن على عبوديته وعلى إذعانه، ويرسخ صاحب السلطة سلطانه الباطش وطغيانه ممارسة وسياسات.

أما السلطان فإنه ينظر إلى ذاته بأنه الكامل المكمل، والزعيم الخالد الذي لا يموت، والطاغية الذي لا يُسأل، والسلطان الذي لا يُقهر، إنه إله أو شبه إله، إنه أيضا ليس إنسانا، المعادلة ضمن هذا السياق أن المواطن إنسان عبد، والإنسان إله سيد، وكليهما ليس بإنسان، أحدهما تحت خط الإنسانية يوصف بالعبودية، والآخر فوقها يوصف بالألوهية.

ضمن هذا الاعتبار كيف يمكن أن نتصور حال المواطنة وحال الانتخاب؟ إن اللحظة الانتخابية في الولايات المتحدة الأمريكية على مقعد الرئاسة بين “دونالد ترامب” (الرئيس) وبين “جو بايدن” (مرشح الحزب المنافس) وبينهما الناخب الأمريكي ونظام للانتخابات.

ترامب ضمن هذه الانتخابات يشكل نموذجا مختلفا عن سابقيه يؤشر على أزمة الديمقراطية، وربما على النظام الانتخابي الذي أتى بهذا الرئيس الممتلئ كبرا وغرورا وغطرسة، بما يمثله من لحظة نماذجية، مسكونا بالعنصرية والمادية النفعية وكذلك بالغطرسة المتناهية. وجاءت ممارساته لتدل على أنه لا يقبل بأي حال من الأحوال أن يتعرض في خيار انتخابي – خاصة لفترة ثانية – للخسارة، ومن ثم حينما ظهرت الأرقام والنتائج التي توحي بتقدم جو بايدن عليه، ما كان منه إلا أن مارس سلوكا يشكل أعلى درجات الإنكار والاستنكار، ويصرخ: “إنه التزوير ..” بل تعلن بعض إدارته وداعميه من حزبه أنه لن يسلم السلطة، في تصريحات تشكل حالة بلطجة غير مسبوقة، وصار يلقي جزافا اتهامات هنا وهناك؛ مارس فيها أفدح مؤشرات العنصرية ليصف ولايات معينة بالحقارة ويصف ولايات أخرى بالعظمة، معياره في ذلك “ذاته”؛ فالولايات العظيمة هي التي منحته أصواتها، والولايات الدنيئة/ الحقيرة هي التي رفضته.

إننا أمام حالة فريدة تعبر عن تلك اللحظة الانتخابية التي خرج المحللون، ليشيروا إلى ردود فعله بأنها “طبيعة ترامب وما يتعلق به من خطاب شعبوي قام خلال سنوات عدة بزراعة خطاب الكراهية والتمييز”، ومن ثم لم يكن هناك أكثر من عقاب إلا أن يسقط وهو في حالة إنكار وغطرسة واستنكار، معلنا أنه الفائز بلا منازع، ولم يسانده في ذلك إلا وسائل إعلام ساقطة وإعلاميون مطبلون اعتادوا تمرير التزوير في بلادهم المستبَد بها، فإذا بهم يرددون: “الانتخابات تُزوّر في الولايات المتحدة”.

في لحظة نماذجية أخرى وضمن سياقات أخرى مختلفة ومتخلفة، جرت انتخابات برلمانية الكل يعرف كيف تحددت معاييرها (القوانين والدوائر والمرشحون)، وضمن نظام ينظر إلى داعميه وفق نظرية “الكلينكس” (إذا أدى مهمته فوجب الإلقاء به في صندوق القمامة).

ضمن هذه الرؤية التي تتعلق بالمواطن العبد ينظر النظام إلى داعميه.. نماذج هذا المحامي والمستشار السابق المشهور في الأوساط السياسية والرياضية والذي صار بوقا للنظام ومتباهيا بقيامه بالعديد من الخدمات للنظام الانقلابي لا يستطيع أحد غيره أن يقوم بها، ولا يستطيع أحد من دولاب السلطة الإضرار به أو الاستغناء عنه وعن خدماته المشبوهة.. نسي “هذا المستشار” نظرية النظام في داعميه وتابعيه حينما يرفع عنهم الغطاء ويتركهم لنهش الآخرين، بعد أن صار عبئا يجب التخفف منه.

ولكنه ضمن حالة الإنكار والاستنكار لم يكن ليقبل ذلك. أعلن في البداية أنه فاز، ثم كشفت النتائج أنه قد سقط سقوطا ذريعا، لحظة انتخابية تشير إلى اختلال المعادلة الانتخابية التي تجري انتخابات مظهرية لا تحقق أصول المواطنة في صفات الترشيح، والمبادئ التي يجب أن تستند إليها وحرية التصويت التي تتأكد في إجرائها، والخيارات التي تستند إلى معايير تمثيل الأمة حقيقة بحيث تعبر عن مصالحها ومصلحة الناخبين.

في هذا المقام لا تصلح معادلة السيد والعبد وتأميم المواطنة، ولا تنطلي لعبة الإنكار والاستنكار والصراخ بأنه التزوير؛ لأن هؤلاء المتغطرسين في حقيقة أمرهم هم الذين يزوّرون على الحقيقة والاختيار.