نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 17 نوفمبر 2020

لم يمر عام على حادث انتحار طالب كلية الهندسة في جامعة حلوان من أعلى برج القاهرة حتى شهد ميدان التحرير (القريب من البرج) حادث انتحار مواطن آخر حرقا. وقد سبق هاتين الحادثتين وما بينهما العديد من حالات الانتحار، حيث بات من المؤكد أن هذه الظاهرة لن تتوقف في المدى القريب، وفي حال استمرار النظام الانقلابي الحاكم فقد لا تتوقف أيضا في المدى المتوسط.

ونحن هنا لا نقول ذلك استرسالا ولا مبالغة ولكن اتهاما؛ لأن أسباب الانتحار في تلك الحالات وشبيهاتها تؤكد أن الاستبداد جعل الخروج من الدنيا أيسر الخيارات أمام الناس من الانخراط في الشأن العام الذي أُغلق بالضبة والمفتاح كما يقول أهل مصر.

ولأن كل المسالك تضيق في الاستبداد إلا الموت، لأنه يحظى برعاية طغاة الاستبداد ومن يدعمهم، فالموت أو القتل هم محترفوه، فقد جاءت مصر وفقا لتقرير “فرانس 24″ الصادر عام 2019؛ الأولى عربيا في حالات الانتحار، رغم أن بعض الدول العربية تشهد نزاعات مسلحة وحروبا أهلية، حيث شهدت مصر 3799 حالة انتحار في عام 2016، ومن المتوقع وفقا للرائج في وسائل الإعلام عن حالات الانتحار في مصر مؤخرا أنها قد زادت بشكل لافت. فهناك أنماط متعددة للانتحار، فبالإضافة للحالتين السابق الإشارة إليهما، هناك أيضا الانتحار أسفل مترو الأنفاق والغرق في المياه (النيل والبحر). أما المحافظات الأخرى والأرياف فتشهد تكرار حالات الانتحار، بواسطة تناول أقراص حفظ الغلال السامة المعروفة بـ”الحبة الفسفورية”.

وبعيدا هذه الأنماط، فإن معظم الأسباب بما فيها الاجتماعي والسياسي – حالة ميدان التحرير – تؤكد على مدى تضييق الاستبداد على معاش الناس وأمور حياتهم ودفعهم دفعا للتخلص من حياتهم، حتى ولو لم يقولوا أن السبب سياسي. فالفقر، والعنف الاجتماعي، والبطالة، وارتفاع سن الزواج.. كلها أمور مترتبة على ما فعله ويفعله الاستبداد في المجتمع المصري والنيل من شبكة علاقاته الاجتماعية.

عرفت مصر في ظل هذا الانقلاب الدامي ظاهرة الانتحار الجماعية سواء لأفراد من الأسرة (شهدت مدينة كفر الدوار بالبحيرة في نيسان/ أبريل 2019 انتحار ثلاث فتيات من أسرة واحدة بتناول أقراص حفظ الغلال السامة)، أو لأسرة كاملة (شهدت محافظة الإسماعيلية في حزيران/ يونيو 2020 شروع أب في قتل أسرته بالكامل ذبحا ثم انتحر، بعد اعتقاده بوفاة الجميع، بينما جرى إنقاذ حياة الضحايا، وهم زوجته وابنتاه وزوجة شقيقه). وسبق ذلك في عام 2018 وقوع حادثة مماثلة، حيث أطلق رجل أعمال الرصاص من مسدسه على أبنائه الثلاثة وزوجته ثم انتحر.

هذا النظام الانقلابي الفاشي مسؤول عن ذلك ليس فقط بالتضييق على المواطنين في المجالات العامة والخاصة والسياسية والشخصية، ولكن بالاستخفاف في استخدام العنف والتوسع في ممارسته في المجتمع. فما حدث من جانب هذا النظام في مجازر رابعة والحرس الجمهوري والنهضة وغيرهم، وما يفعله مع المواطنين في أقسام الشرطة والسجون، سوّغ للناس ممارسة العنف على أنفسهم وأهليهم.

ومن جانب آخر مسؤولية الانقلاب سياسية، حيث أن مفهوم السياسة إلى جانب حرية التعبير والتظاهر والممارسات السياسية يشمل أيضا معاش الناس وحياتهم اليومية، ولكن تضييق الانقلاب على الناس أورثهم الكبت والاكتئاب، خصوصا أن هذا النظام لم يترك حتى الأموات في قبورهم فتعدى على المقابر في طول البلاد وعرضها.

تشكل حادثة حرق المواطن محمد حسني لنفسه في ميدان التحرير حالة من القهر المركب في سياق حكم العسكر وطبعته الانقلابية، لتعبر عن شواهد متعددة من فقدان المعايير واضطراب الحياة الاجتماعية عند عموم الناس، كمؤشر على أن المجتمع يشهد مجموعة من الظواهر الانقلابية – أيضا – خصوصا وأن هذا المواطن ووفقا للصحف المصرية نفسها لم يترك أي طريق إلا وسلكه في سبيل الحفاظ على أموال الدولة المصرية، وقدم الشكاوى ووقف بمفرده متظاهرا من أجل كشف السرقات وفضح الفساد. ولكن النتيجة أنه هو من تعرض للفصل من عمله، وتشريد أسرته وإجبارهم – لاحقا – للإساءة إليه حتى قبل أن يكشفوا عن مصيره.

في المقابل، نجد أن نادي قضاة مصر يستنفر ويصدر البيانات ويهدد ويرغي ويزبد في الدفاع عن والد (الحريقة) “الابن المدلل” الذي نال من رجل المرور ومن المجتمع ومن القانون ومن الدولة نفسها. فقد أكد نادي القضاة في بيانه وتصريحات قياداته أن والد الطفل قد اعتذر وقام بما عليه في هذه المسألة، ولا أحد يستطيع أن يمس هيبة القضاة ممثلة في شخص حريقة ووالده.

ضمن هذه الحال من القهر المركب، يبدو المواطن المقهور في جمهورية الخوف فاقدا للحقوق يائسا من أن يصل إلى أي حالة من حالات الإنصاف، ثم نجد بعد ذلك إعلام الانقلاب وبشكل فج يحاول أن يجعل من تلك الحادثة – كعادته – شماعة لفشل الانقلاب، فينسبها إلى عنصر إخواني مهتز نفسيا، ويتحدث البعض منهم بأن مثل هذه الحوادث تدبر بليل في محاولة لتدوير الثورات، على حد قول بعضهم في صناعة “بوعزيزي” آخر.

بل إن ذلك الإعلام القميء يصل به الأمر ليمارس أقصى ضغوطه منتهكا حرمة الأسر والتجرؤ على جوهر العلاقات الإنسانية، فيجبر الزوجة أو الابنة على الحديث عن الزوج أو الأب على نحو معين يجعله متهما أو فاقد العقل، كل ذلك في سياق محاولة الانقلاب إعفاء نفسه من المسؤولية عن مثل تلك الظواهر التي نراها تتكرر من فترة لأخرى.

هكذا يتضح انقلاب المعايير في المجتمع واضطرابها من جراء التحريض الانقلابي على أنماط من السلوك خالية من القيم الاجتماعية، والمساواة بين المواطنين وانسداد الأفق والتمييز بين مواطن وآخر في سياقات من ضيق المعايش، وزيادة معدلات البطالة وغلاء وتغول الأسعار على معاش الناس وعدم القدرة على سد ضروراتهم، في ظل بيئة لم تعد تهتم بالأمن الإنساني في جوهره، ضمن نظرة طغيانية تهتم بالأمن السياسي؛ بمعنى تأمين السلطة الباطشة على حساب الحدود الدنيا للأمان النفسي للمواطنين، وتأتي الأحداث لتدلل على أن مسألة المواطنة تحت سيطرة الانقلاب مهددة في جوهرها وفي الصميم، ذلك أن تلك الحوادث التي كنا نراها أمرا استثنائيا صارت مع تلك الحالة الانقلابية حدثا متكررا؛ يوصف باعتباره ظواهر خطيرة تمس المجتمع وتنبئ بالوصول بذلك المواطن المقهور إلى طريق مسدود، تنسد فيه السبل فيكون نهبا لليأس والإحباط، بما يوصله في نهاية المطاف إلى إنهاء حياته لأسباب مختلفة.

كنا قد أكدنا أن السياسة هي معاش الناس، وأن معاش الناس مع استراتيجيات الترويع والتفزيع والإفقار والتجويع قد تضرر في أساسياته وضروراته، وهذا من شأنه أن يحدث تصدعا كبيرا في بروز ما يمكن تسميته الإنسان المقهور. ويمكن لنا هنا تعريفه وفقا للكتاب المهم في سلسلة كتابات الدكتور مصطفى حجازي المهمة حول الإنسان وفي مقدمتها “التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور”: “هذا الإنسان الذي تبدو حياته مشتتة تذهب في كل اتجاه، وأن تصرفاته ونظرته ومواقفه واستجاباته يبدو عليها التفكك؛ ضمن وضعية مأزقية هي أساسا وضعية القهر الذي تفرضه عليه الطبيعة التي تفلت من سيطرته وتمارس عليه اعتباطها، والممسكون بزمام السلطة في مجتمعه الذين يفرضون عليه الرضوخ.. سيكولوجية الإنسان المقهور تنبت علاقات القهر والتسلط من ناحية، وردود الفعل عليها من رضوخ أو تمرد من ناحية ثانية، وما يولده ذلك من قلق جذري وانعدام الشعور بالأمن والإحساس بالعجز أمام المصير، هذه الحالة التي تزلزل توازنه الوجودي”، وتدفعه إلى نهاية بائسة يائسة.. هذا حال المواطنة المقهورة النابعة من الإنسان المقهور.