نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 8 ديسمبر 2020
تعد تلك الزيارة التي قام بها المنقلب السيسي إلى فرنسا نموذجا مهما بما تعانيه حقوق الإنسان وحقوق المواطنة من إشكالات شتى، وتؤكد في هذا المقام أن الغرب الذي كانت له براءة اختراع هذه المفاهيم صار يعبث بها عبثا شديدا، بحيث يفسرها كما شاء ويؤولها وفق مصالحه التي تحركه في كثير من المواقف والسياسات.
وحينما تحدثنا من قبل عن “المواطنة الماكرونية” وعن “المواطنة الترامبية”، كنا نقصد بذلك كيف أن هذه الأفكار أصابتها فيروسات خطيرة، من أهمها علمانية فجة زائفة، وعنصرية قميئة صارت تسكن هذين المفهومين بحيث بددت معنى الإنسان والإنسانية، ومعنى المواطنة والمواطنية، وبدا الأمر وكأنه يختار في كل وقت تأويلا أو تعريفا تنهار معه أي قيمة أساسية ثابتة، وتروج لمفهوم نسبية القيم في أعتى صوره وأقسى تطبيقاته؛ حينما يتعلق الأمر بكشف العلاقة الحقيقية بين الاستبداد المقيم والاستعمار اللئيم.
وباتت هذه العلاقة تحكم كثيرا من الأمور والعلاقات ومنظومات التعامل حتى صرنا أمام المواطن والإنسان الذي يقع بين مطرقة وسندان؛ مطرقة الاستبداد، وسندان العنصرية التي تسكن هذه الحضارة فتنسف أصل القيمة الإنسانية وعناصر الكرامة الإنسانية، وصرنا أمام إنسان يرى هؤلاء أن له كل الحقوق، وإنسان ينكرون عليه كل الحقوق. وباتت هذه الأمور تشكل حالة من ازدواجية المعايير الخطيرة التي صارت ديدنا ومنهجا لتلك الحضارة الغالبة التي يبدو أن ماكرون أحد هؤلاء الذين يعبرون عنها في واحدة من أهم لحظاتها النماذجية، وصار متخبطا في تصريحاته ليظهر بشكل أو بآخر أنه يدافع عن قيم التنوير وقيم النهضة وقيم الحرية التي أطلقتها الثورة الفرنسية.
وقد دعت عشرون منظمة حقوقية في فرنسا للتظاهر اعتراضا على زيارة المنقلب لباريس، في ظل انتهاكات فاضحة وواضحة من نظامه لأبسط حقوق الإنسان. وتؤكد منظمة “هيومن رايتس ووتش” (منظمة دولية غير حكومية) أن على فرنسا ألا تكيل بألف معيار، ووجب عليها وقف بيع الأسلحة لمصر نظرا لسجل الشرطة المصرية في اعتقال وتعذيب السياسيين.
وبات هذا الخطاب المتكرر علامة على إنكار ماكرون لمسائل بديهية أوقعته في تناقض الخطاب، بحيث لا يستطيع إلا أن يدافع زورا وبهتانا عن قيم التنوير ويلتقط المنقلب المستبد منه الخيط ليقيم ذلك التحالف بقوله إن “العالم يحتاج إلى تضافر مصر وفرنسا لمواجهة العنف والتطرف وكراهية الآخر وازدراء الأديان”، فيجد هو وماكرون منطقة آمنة يقيم فيها علاقتهما غير الشرعية بين الاستبداد المقيم والمستعمر اللئيم، بلا أدنى تحرز في كثير من كلمات تطلق هنا وهناك، ولكنها في النهاية تعبر عن مصالح أنانية زائفة تحركها شفرات سرية حول الإرهاب والعنف ومواجهة الكراهية، وفي حقيقة الأمر فإنه بالنظر الدقيق والبصر العميق يتأكد لنا أن كلا من ماكرون صاحب العلمانية الفجة والعنصرية الكامنة، والسيسي صاحب الاستبداد الفاشي والانتهاك الفاضح، ليؤكدا أنهما قد احترفا تزوير الكلام وتمرير الخطاب بازدواجية مقيتة حول حقوق الإنسان والمواطنة، وحول قيم التنوير وضرورات المواجهة.
علينا هنا أن نتأمل هذا التصريح الذي يستغرب فيه السيسي كيف يطلق عليه وصف المستبد، منكرا هذا الوصف وهو لا يستحقه فحسب بل يزيد عليه فاشية محققة وسياسة طغيانية فاجرة، وكيف أن السيسي نفسه لم ير بأسا قبل ذلك من أن يصفه دونالد ترامب بـ”دكتاتوره المفضل”. هو فقط يحتج على وصف المستبد لأنه يعرف أنه فاق الاستبداد بأقصى درجات طغيانه، وبلا سقوف في ممارسته الفاشية الطغيانية المنفلتة من كل قيد أو حد، في إطار الاستهانة بقتل الأرواح وتنفيذ المجازر والتنكيل بكل معارض، ومحاولته لاتخاذ استراتيجية الترويع كأهم سياساته الطغيانية التي يمارسها بلا أدنى تحسس وبلا أدنى مسؤولية.
فهو يقبل وصفه بالدكتاتور طالما كان مفضلا لدى ترامب، ولكنه لا يرضى بالمستبد طالما أن ذلك يتضمن أيضا نقد سياساته وممارساته الطغيانية. وهنا فإن الأمر الذي يتعلق بشواهد استبداده وفاشيته أكثر من أن تحصى وأوضح من أن تنكر؛ من خلال تقارير تصدر عن منظمات حقوقية دولية وغير حكومية تؤكد على هذا السجل الأسود في حقوق الإنسان، بل وحتى في تقارير وزارات الخارجية في مثل تلك الدول التي تشير إلى انتهاكات فادحة وفاضحة لحقوق الإنسان في مصر التي اتخذت أشكالا تصل إلى حد القتل خارج اطار القانون، بل والجرائم ضد الإنسانية الموثقة على حد تعبير بعض هذه المنظمات الحقوقية الدولية والمحلية.
وإذا أردنا أن ننتقل إلى خطاب ماكرون الذي أكد له البعض في كثير من الأسئلة التي تلقاها (في المؤتمر الصحفي الذي جمعه مع المنقلب) من ضرورة الحفاظ على الحقوق الدينية، فقد امتشق خطاب التنوير وقيم الثورة الفرنسية للتأكيد على ما أسماه بمركزية الإنسان التي فوق كل كيان وفوق كل قداسة دينية. هكذا أراد أن يعبر عن علمانيته الفجة وعن تصوره في ما أراد عن قيمة مركزية الإنسان، ونسي هذا أن مركزية الإنسان تعني في حقيقة الأمر ألا يمارس حقا فيضر بحقوق، وأن يمارس حرية تعبير فيضر باعتقادات الآخرين أو يسخر منها، فيشكل ذلك صناعة للكراهية التي يدعي أنه يحاربها.
إن كل سلوكيات الاستهتار والاستخفاف بالرموز والمقدسات الدينية إنما هي من أهم مصادر استنفار حالة الكراهية والعنف، فوجب التعرُف على حقيقة الظواهر وكيف تنشأ وكيف تتراكم، وكيف يمكن أن تترتب عليها من مآلات تتعلق بقيم أصحاب تلك الأديان وباستهداف رموزها ومقدساتها! ونسير معه خطوات ونؤكد له أين هي تلك المركزية للإنسان التي يتحدث عنها، وفي ذات الوقت يؤكد أن مسألة حقوق الإنسان في مصر هي مسألة داخلية؛ صحيح أنه يختلف ولكن هذا الاختلاف لن يثنيه عن مواصلة بيع الأسلحة للنظام المصري، ولن يثنيه عن عقد الصفقات الاقتصادية تحقيقا كما يدعي لمصلحة البلدين، فأين الإنسان في تلك المعادلة وأين مركزيته التي يتحدث عنها؟!
أم أن الإنسان المصري عنده لا ينتمي إلى دائرة الإنسان وإلى المركزية التي تتعلق بذلك الإنسان وكرامته، أم أنه يتحدث عن إنسان دون إنسان؟! ومن جانبه واتساقا مع منطق الصفقات، يتجاهل المنقلب (في إطار تحالفهما اللا أخلاقي قبل السياسي) دعوات المقاطعة لفرنسا ردا على موقفها من الرسومات المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ظل استخفافه بهذه المقاطعة يعكف على شراء قمر صناعي فرنسي و24 طائرة رافال. أهذا هو تنوير ماكرون “الأعور” الذي يبصر بعين واحدة، فلا يمكن له أن يرى كيف أن إنسانية الإنسان وكرامته حالة عامة لا يمكن معها بأي حال من الأحوال التضحية بها من أجل صفقات ومساومات اقتصادية؟ ما تلك المقايضات التي يعقدها المستبد الطاغي والمستعمر العنصري؟! ما هذا الحلف الدنيء الذي يقوم بينهما ضمن رشاوى متبادلة تتخذ عنوان المصالح، حتى لو كانت في ذلك تضحية بالإنسان وحقوقه بالجملة بل بحياته، فلا اعتبار لها إلا أن يمارس هذا التحيز العنصري في خطاب متناقض لا يحمل أي قيمة ولا يتسم بأي اتساق.
إن هذه الازدواجية المقيتة هي التي تجعل السيسي يتحدث ضمن خطابه عن هذا التحالف المصري الفرنسي الذي ينعقد على أساس أنه “ليس لدي انتهاك لحقوق الإنسان، وإنني لست بالمستبد وليس لدي أي مسجون سياسي”، وفي المقابل يقول “ماكرون” إنني أحارب الكراهية وليس لدي “إسلاموفوبيا”، وأنا مع قيم التنوير وحرية التعبير؛ فيتفق الاثنان على انتهاك حقوق تأسيسية للإنسان ويدعي كل منهما أنه يحترم الإنسان؟!!