نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 15 ديسمبر 2020

طالعتنا الصحف بتصريحات لرئيس مجلس الوزراء في مصر في احتفاله باليوم العالمي لمكافحة الفساد – وكما قيل برعاية من المنقلب السيسي – حيث كان في استقباله رئيس هيئة الرقابة الإدارية. ووفقا للأخبار المتداولة فقد حضر الاحتفال كوكبة من المسؤولين ومن بعض الهيئات الإقليمية والدولية، فضلا عن رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، وكذلك رئيس الاتحاد العام للجمعيات والمؤسسات الأهلية.

ومن العجيب حقا أن يوقع برتوكول تعاون بين رئيس هيئة الرقابة الإدارية ورئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان، وذكر الخبر أن ذلك يأتي في إطار التعاون من أجل تعزيز ودعم حماية حقوق الإنسان وقيم النزاهة والشفافية ومنع ومكافحة الفساد، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة، بالإضافة إلى تبادل الأنشطة التدريبية، وكذلك التوعية ونشر الثقافة والمساهمة في تنفيذ مصر لالتزاماتها الدولية الناشئة عن أحكام الاتفاقات الدولية ذات الصلة.

هكذا يمارس الاستبداد قصته مع الديقراطية ومع المواطنة ومع حقوق الإنسان، بهذا الاستخفاف الشديد وفائض من الكلام ليس له من معنى إلا أن يحاول الاستبداد أن يتخفى وراء كلمات فخمة “زخرف القول غرورا”.

إلا أن المدهش بحق أن يرد في ذات الاحتفال أن السيسي المنقلب المستبد الفاشي قد أصدر، وفق تصريحات رئيس الوزراء، “توجيهات بالتحول نحو دولة مدنية ديمقراطية حديثة”.. هكذا المستبد في خطابه وممارساته يؤسس لسياسات الاستخفاف وخطاب زائف يحفل بمعسول الكلام؛ وهو أمر يجعلنا – الذين قاموا على تدريس العلوم السياسية عشرات السنين – لا نجد في قاموس السياسة ما يصف هذه الحال من استخفاف المستبد حينما يجعل التحول الديمقراطي عن طريق توجيهات مزعومة، وبطريقة أقرب ما تكون إلى رص الكلمات بجوار بعضها من دون معنى أو مغزى، ومن دون أدنى تأشير على ممارسات عملية إلا أن تكون تلك لغة دعائية إعلانية إعلامية تزامنت للأسف الشديد مع زيارة خطيرة قام بها المستبد لفرنسا، وقد استبقته عاصفة إعلامية من قوى ومنظمات مدنية مختلفة تستنكر استقبال السيسي على البساط الأحمر في “قصر الإليزيه”، نظرا لوضوح فاشية نظامه وانتهاكاته الفاضحة الممنهجة والمستمرة لحقوق الإنسان.

تصاعدت اللغة حول قضايا حقوق الإنسان في مصر، وبات السيسي المنقلب مستخفا مستهترا ومؤكدا أنه لا يليق وصف نظامه بالعنف أو كنظام استبدادي، وأنه لا يليق أن يوصف نظامه بذلك، مدبجا خطابه بحلقات من الإنكار وشهقات من الاستنكار يؤكد فيها أن منظومته تراعي حقوق الإنسان ولديها من منظمات المجتمع المدني ما يفوق 53 ألف منظمة، معبرا بذلك عن وجود هذه المنظمات الكثيرة كمؤشر على الحفاظ على حقوق الإنسان في مصر وعلى أن دولته تعيش حرية وديمقراطية وتحافظ على حقوق الإنسان.

وتتكرر ضمن خطابه محاولاته لتصوراته الخاصة: ما هي حقوق الإنسان، وما يجب أن يتصوره لتلك الحقوق على مقاس تصوراته الدنيئة التي تستبيح كل الممارسات التي تتعلق بانتهاك أبسط تلك الحقوق التأسيسية والأساسية، والاستخفاف بالحقوق الإنسانية وممارسة كل مظاهر العنف من مطاردات واعتقالات وقتل خارج إطار القانون والتعذيب والاختطاف القسري، من دون أدنى حساب ومن دون أدنى اعتبار لكل ما يتعلق بحقيقة الحفاظ على الإنسان وكرامته.

تلك هي المسرحية الهزلية التي نرى أحد أحقر فصولها في محاولة لشرعنة نظامه، وفق سياسات تمرر هذا الانتهاك الخطير والحقير لحقوق الإنسان وحقوق المواطن المصري، ولا بأس أن يشارك سدنة ذلك النظام في تلك المسرحية الهزلية بخطاب أقرب ما يكون إلى النكتة والسخرية من المواطنة والديمقراطية والحقوق الإنسانية. نعم إن الدولة يمكن أن تتحول إلى دولة مدنية حديثة ديمقراطية بتوجيهات شخص لا يعرف للمدنية معنى، وهو الذي عسكر المجتمع بأسره في كل جنباته وعلاقاته، في كل مؤسساته وسياساته، فجعل مصر معسكرا كبيرا ويلوح بالسلاح لكل معارض ويبث الذعر والخوف وينشر الترويع والتفزيع.

وهو لا يفهم أيضا معنى الدولة الحديثة أو العصرية بما تواكب أصولا مرعية للحفاظ على الحقوق الإنسانية والممارسات الديمقراطية. فبعد أن كان يدير مبارك المخلوع ومن قبله دولة “كأن”، فإن السيسي المنقلب الفاشي يدير دولة “الضد” التي تقوم بعكس مقصودها، مؤكدا في كل مرة أنه يبني دولة وفي حقيقة الأمر أنه يبني دولته الخاصة على مقاسه وعلى مقاس استبداده وفاشيته. وبات يحرك مشاريعه ضمن خطته الاستبدادية بشبكة من الطرق تتيح له السيطرة على العباد والبلاد، وكذلك بشبكة من عسكرة المجتمع ومن الفاسدين الذين شكلوا سدنة لنظامه؛ بشراء ذممهم واختطاف المؤسسات جملة فصارت تلك المؤسسات تحت رحمة استبداده؛ تسبح بحمده وتفعل ما يريده من استراتيجيات ظلمه واستبداده وطغيانه وإفقاره لهذا الشعب وتجويعه، فهل هذه الدولة الحديثة في عرفه؟

أما عن الديمقراطية فحدث ولا حرج ليؤكد على صياغة منظومة استبدادية وشبكة من الفساد وجوقة من الإعلام تمكن لاستبداده وطغيانه الذين يؤكدون ليل نهار أن نظام السيسي هو من أزهى عصور الحرية والديمقراطية، لا نعرف أي ديمقراطية يقصدون أو عن أي حرية يتحدثون إلا أن تكون حرية القتل والاعتقال بلا جريرة وصناعة الكراهية داخل المجتمع وتفتيت قواه المجتمعية وتمزيق شبكة علاقاته الإنسانية، فهل ذلك هو ما يمكن تسميته بالتحول الديمقراطي، أم أنه يقصد بتلك التوجيهات أن التحول قادم كوعوده الكاذبة التي يطلقها ليل نهار بعدم ارتفاع الأسعار، أو أنه يعمل كل ما من شأنه أن يصب في مصلحة المواطن على حد تعبير أجهزة إعلامه والتي يشكل هذا الخطاب حالة سخرية عامة بكل ما يتعلق بالمفاهيم السياسية المعتبرة ولما لا وقد أكد منذ البداية أنه ليس بالسياسي ولا يهتم بها، فأنشأ قاموسا خاصا يتعلق بتلك الحالة السيسية التي لا تمت بأي صلة بالعلوم السياسية وصار كل ذلك مسوغا لانتهاك الإنسان وحقوقه الأساسية وانتهاك كل ما يتعلق بحقوق المواطنة ليذكرنا كل مرة بأنه يغتصب الكلمات ويقلب معانيها ضمن انقلابه الذي قام به وقطع الطريق على مسار ديمقراطي.

ومن هنا تبدو لنا تلك التصريحات في احتفال يتعلق بمكافحة الفساد ليست إلا سخرية المواكبة بأن منظومة السيسي تكافح فسادا أو تقيم عدلا أو تحقق أي قدر من الحقوق الإنسانية المعتبرة والمتعارف عليها، ومن ثم يظل ذلك الخطاب ضمن مساراته الزائفة ليشكل خطابا مزورا، ولا بأس من فائض الكلام وزخرف القول وإطلاق الألفاظ الفخيمة على لسان سدنة النظام. وقد وضعوا مسؤولا من خلال الجهاز المركزي للمحاسبات في السجن؛ لا لشيء إلا لأنه كشف أرقاما خطيرة عن فساد، وصارت هيئة الرقابة الإدارية التي يحتفل فيها وبها ليست إلا مؤسسة فساد تتربص بالمخالفين وتضعهم تحت مقصلة الحساب، وهي في الحقيقة تقوم على تصفية حسابات.

أيّ دولة تلك التي يريد السيسي أن يبنيها ويبشر بالتحول إليها؟! وماذا عن دولته الآن؟! وماذا عن منظومته ما بعد التي يكرس فيها كل طغيان وكل سياسات تتعلق بتمكين وشرعنة انقلابه على حساب المواطنة والديمقراطية والدولة الحديثة والحياة المدنية؟! ولا نملك إلا أن نسخر من خطاب كهذا يرد على ألسنة سدنة هذا النظام، فيمتهنون كل معنى للسياسة والمفردات المتعلقة بها، ويستخفون بكل أمر يتعلق بمواطنة حقيقية وحقوق إنسان تأسيسية وحياة ديمقراطية، ويدلسون على الجميع في السياسات وشراء الذمم وشراء المواقف. ويأتي ذلك كله ضمن حالة إقليمية ودولية صارت للأسف الشديد تمكن لأنظمة مستبدة فاشية عسكرية وتحاول من خلالها أن تحقق مصالحها الدنيئة؛ ولا بأس أن يتحدث هؤلاء وأولئك بحديث الزيف عن حقوق الإنسان والديمقراطية والمواطنة، فمنذ متى يمكن أن تتحول الدول من حال إلى حال بتوجيهات مستبد طاغية لا يعرف إلا لغة العسكرة والقتل والترويع والتفزيع؟!