نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 24 مايو 2022

من أهم مداخل الالتباس والتلبيس سواء تعلق الأمر بالحيرة أو بالقصد والتعمد؛ هو الباب الذي يجمع تلك الكلمات التي ظُلمت من مستخدميها، ذلك أن الأزمات في عالم المفاهيم إنما ترتبط بذات الأمور التي تتعلق إما بوضع تلك المفاهيم ابتداءً، أو بنقلها وحملها ترجمةً أو انتقالاً.

وغالب ما يحدث من أزمات في عالم المفاهيم إنما يتم في الاستخدام والتداول والاستعمال، ولعل ذلك هو أخطر ما يتعلق بالمفاهيم التي تتداول بين عموم الناس في حياتهم وفي اجتماعهم وفي التعبير عن قضاياهم وتحدياتهم، وهو أمر يجعل من ظلم الكلمات أمرا غاية في الأهمية بالتوقف عنده.

ولعل ما قام به الشيخ البشير الإبراهيمي من جهد وإشارة في “بصائره” إنما يعبر عن فتح الباب للوقوف على تلك المفاهيم والكلمات التي أصابها ذلك الظلم البين، إن بالغفلة، وإن بالالتباس والحيرة، وإن بالتلبيس من صاحب القوة كأحد أهم المسالك؛ اغتصاب الكلمات، وتغيير مضامينها في سياق ما تطلقه على ظواهر تاريخية أو معاصرة.

ولعل ما قام به الشيخ البشير الإبراهيمي من جهد وإشارة في “بصائره” إنما يعبر عن فتح الباب للوقوف على تلك المفاهيم والكلمات التي أصابها ذلك الظلم البين، إن بالغفلة، وإن بالالتباس والحيرة، وإن بالتلبيس من صاحب القوة كأحد أهم المسالك

يقول البشير الإبراهيمي: “إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتِها كظلمِ الأحياء بتشويه خِلْقَتهم، كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم يزيدُ على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليطٌ للتاريخ، وتضليل للسامعين، ويا ويلنا حين نغترُّ بهذه الأسماء الخاطئة، ويا ويح تاريخنا إذا بُنِي على هذه المقدِّمات الكاذبة، ونغش أنفسنا إذا صدَّقنا أن مدارسنا الابتدائية كليات، ويا خجلتنا بين الأمم الجادة، إذا صارفَتْنا على السماع بالقناطير فلم تجد عند العيان إلا الدوانق.. يا قومنا، إن للواقع عليكم حقّاً، وإن للتاريخ حقّاً، وإن للأمة التي تعملون لها حقوقاً، فأنصفوا الثلاثة من نفوسكم!”.

وهو يشير في تلك الكلمات الدقيقة إلى جملة من المعاني المهمة من الكشف والفضح لهذه الكلمات التي تظلم عيانا بيانا في الاستخدام والاستعمال، فتنحرف عن معانيها وتنتهك مبانيها وتغتصب مغازيها، ويقوم كل هؤلاء بتوجيهها على عكس مقصدها في سياق يجعل ذلك الطغيان في عالم الكلمات أقسى من تشويه الأحياء وخلقتهم.

وفي الحقيقة فإن كلمات الأمة ومفاهيمها التي ترتبط بهويتها ونهوضها لا بد -كما أكدنا- أن تكون محل اهتمام لا يفرط في المباني ولا المعاني ولا المغازي التي تسكن تلك الكلمات، ويجب أن نصد عنها كل من يحاول التدليس عليها أو التلبيس بها.

كلمات الأمة ومفاهيمها التي ترتبط بهويتها ونهوضها لا بد -كما أكدنا- أن تكون محل اهتمام لا يفرط في المباني ولا المعاني ولا المغازي التي تسكن تلك الكلمات، ويجب أن نصد عنها كل من يحاول التدليس عليها أو التلبيس بها

وكان ذلك الخيار البديع من قبل “الإبراهيمي” للكلمة النموذج في هذا المقام والتي تتعلق بالظلم الفادح للكلمات فتقع بين خذلان وبين اغتصاب، وهو من الأمور التي تمر مع توالي الأزمان وتمرير ذلك الخطأ من جراء اغتصاب تلك الكلمات.. الكلمة النموذج التي اختارها في هذا المقام كانت كلمة الاستعمار، ولندعه يؤدي ما تأدى من هذا الإشكال الخطير في استخدام وتداول الكلمة على نحو فرضه صاحب القوة في عالم الترجمة، وفي عالم إطلاق الكلمات على ظواهر لقيطة فتقوم بانتهاك شرف الكلمات وتدنيس المعاني التي تتعلق بها ضمن عملية استيلاء على العقول من خلال الكلمات والمفاهيم..

“عجيب! وهل الاستعمار مظلوم؟ إنما يقول هذا (كولون الشمال) أصحاب الكيمياء التي أحالت السيِّد عبداً، والدخيل أصيلاً، أما أنت فتوبتُك أن تحشر كلمة “مظلوم” هذه في الكلمات المظلومة.. هوِّن عليك فإن المظلوم هنا هو هذه الكلمة العربية الجليلة التي ترجَموا بها لمعنى خسيس.. مادة هذه الكلمة هي “العمارة”، ومن مشتقاتها التعمير والعمران، وفي القرآن: “هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا” (هود: 61)، فأصل هذه الكلمة في لغتنا طيبٌ، وفروعها طيِّبة، ومعناها القرآني أطيب وأطيب، ولكن إخراجها من المعنى العربي الطيِّب إلى المعنى الغربي الخبيث ظلمٌ لها، فاستحقَّت الدخول من هذا الباب، والإدراج تحت هذا العنوان”.

فلك أن تلحظ من خلال هذا الوصف الدقيق للإبراهيمي في تلك الكلمات القاطعة المانعة، حينما يشير إلى قيام هؤلاء باغتصاب الكلمة لإطلاقها على أخس الظواهر هذا من جانب، ومن جانب آخر هذا الدخل والدنس الذي أدخلوه على شرف الكلمة فصارت تطلق في هذا السياق القبيح. وتمنع في الاستخدام، بل قد يقوم البعض بمزيد من التوضيح والتصريح حتى يرد للكلمة شرفها، وما أشرف هذه الكلمة في اتصالها بالعمران من أن تحتويها آية في القرآن، وكأنه بذلك اغتصب الكلمة وأكثر من ذلك شوه معانيها بحيث انصرف البعض عن استخداماتها الأصيلة، وبات الزيف والعملة الرديئة يطردان الصدق والعملة النفيسة.

“فالذي صيَّر هذه الكلمة بغيضةً إلى النفوس، ثقيلةً على الأسماع، مستوخَمةً في الأذواق، هو معناها الخارجي -كما يقول المنطق- وهو معنى مرادف للإثم، والبغي، والخراب، والظلم، والتعدِّي، والفساد، والنهب، والسرقة، والشَّرَهِ، والقسوة، والانتهاك، والقتل، والحيوانية، إلى عشرات من مئات من هذه الرذائل تُفسِّرها آثاره وتنجلي عنها وقائعه.. وواعجباً، تضيق الأوطان على رحبِها بهذه المجموعة، وتحملها كلمة لا تَمُتُّ إلى واحد منها بنسب، وإذا كنَّا نُسمِّي مَن يجلب هذه المجموعة -من كبائر الإثم والفواحش إلى وطن- ظالماً، فأظلم منه مَن يحشرها في كلمة شريفة من لغتنا، ليخدع بها ويغرَّ، وليهوِّنَ بها على الفرائس شراسة المفترس، وفظاعة الافتراس.. أما والله، لو أن هذا الهيكل المسمَّى بالاستعمار كان حيواناً لكان من حيوانات الأساطير بألف فمٍ للالتهام، وألف مَعِدة للهضم، وألف يدٍ للخنق، وألف ظِلْف للدوس، وألف مخلب للفرس، وألف نابٍ للتمزيق، وألف لسان للكذب وتزيين هذه الأعمال، ولكان مع ذلك هائجاً بادِيَ السَّوْءات والمقابح على أسوأ ما نعرفه من الغرائز الحيوانية.. سَمُّوا الاستعمار تخريباً -إذ لا تصحُّ كلمة استخراب في الاستعمال- لأنه يُخرِّب الأوطان والأديان والعقول والأفكار، ويهدم القيم والمقامات، والمقوِّمات والقوميات.. وخذوا العهد على المجامع اللُّغوية أن تمنع استعمال هذه الكلمة في هذا المعنى الذي لا تقوم بحملِه عربةُ مزابل.”

كل ذلك يوضح لنا كيف يمكن رفع الظلم عن تلك الكلمات الشريفة، وعدم تمرير تلك الظواهر الخبيثة بإطلاق الأوصاف على غير مقتضاها، وعلى غير معناها ومغزاها

وغاية الأمر حينما يؤكد “الإبراهيمي” على ما أصاب تلك الكلمة من ظلم بيّن، فإن الأمر هنا يحتاج منا إلى استخدام كلمات دالة على أقبح ظاهرة شهدها التاريخ، قديمة وحديثة ومعاصرة. ولعل هذا جعل البعض يبحث عن كلمات تدل على ذلك القبح البيّن في هذه الظاهرة، فأطلق عليها “استدماراً” أو “استكباراً” أو غير ذلك من مفردات تؤكد على أخطر الأثر والمآل لهذه الظاهرة على الإنسان والعمران والأوطان.

ولعل كل ذلك يوضح لنا كيف يمكن رفع الظلم عن تلك الكلمات الشريفة، وعدم تمرير تلك الظواهر الخبيثة بإطلاق الأوصاف على غير مقتضاها، وعلى غير معناها ومغزاها. ولعل ذلك تلحق به كلمات استجدت، وجب علينا أن نتوقف على مداخل تلبيسها، وعلى مسالك التباسها، في سياق ممارسات خبيثة، وكلمات تزور التاريخ وتضلل الأسماع وتضرب هوية الأمة في مقتل.

ومن ثم فإننا سنتعرض في مقال قادم على الذراري من المفاهيم والكلمات والتي ولدتها تلك الظاهرة على ذات النسق، في محاولة منها لتقبيح الحسن وتحسين القبيح. ومن أهم هذه الكلمات التي وجب أن نقف عندها، وقد شاعت على الألسنة وتداولها عموم الناس وانتشرت في وسائل الإعلام وباتت تعبر عن معان خسيسة تمررها وكأنها تشكل سلوكا طبيعيا، كلمة “التطبيع”.