نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 1 يونيو 2022

يمكن أن نتعرف على ما تعرض له مفهوم الإصلاح من تلبيس من خلال رصد إشكالات ست تتناول جوانب التلبيس المتعددة التي ترتب عليها التباسات في المدارك والفهم.

يتمثل الإشكال الأول في تأمل الجذر اللغوي لمفهوم الإصلاح “صلح”، نجده يصنف من بين الجذور الطيبة في “الشجرة الطيبة” والكلمات الطيبات؛ وهو أمر يدفعنا للتساؤل: لماذا يتم استهداف مثل هذه الكلمات إلا إن يكون في إطار التلاعب بتلك الجذور؟ فكلمة الاستعمار جذرها “عمر” والإصلاح “صلح”، ومن هنا نتساءل: كيف يُتعمد إفساد الكلمات الطيبة بمعانيها الجليلة، فيُدخل عليها ما ليس فيها وتُربط بظواهر إنسانية في الممارسة سلبية في الأساس قبيحة المسالك والأدوات؛ في محاولة لأن تحمل تلك الكلمات حمولات سلبية فتستخدمها وأنت في حالة التباس يصعب معها الاستخدام المجرد، وربما يستحيل؟

أما الإشكال الثاني فيعنى بعمليات التلبيس على مفهوم الإصلاح من خلال مستخدميه، بسبب الاستبداد وطغيان القوة، وهو أمر نبه إليه القرآن الكريم في آياته ضمن العلاقة بين الفساد والإصلاح، مؤكدا أنه ليس هناك من فاسد يمكن أن يصف ما يقوم به باعتباره فسادا وإفسادا، فلا يمكن أن يطلق على نفسه أو فعله هذا الوصف، ولكنه غالبا ما يحاول أن يدعي زيفا صلاحا وإصلاحا: “وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ” (البقرة: 11).

ومن هذا المنطلق يشير الدكتور سيد عمر إلى أن “مفهوم الإصلاح في القرآن الكريم واحد من مفاهيم المنظومة المفتاحية الجامعة بين الأفكار والأشخاص والأشياء، وهو مقابل لمفهوم الإفساد. وقد يدعي المفسد أنه مصلح -كمال سبقت الإشارة- مما يجعلنا أمام نوعين من الإصلاح: الإصلاح الدعيّ، والإصلاح التوحيدي؛ الأول ضال ومراوغ واسم على غير مسمى، والثاني هو وحده الجدير باسمه وهو مفتاح الاستقامة، والتمكين والعزة، والتزكية، والعمران في الدنيا والفوز في الآخرة”.

قد يدعي المفسد أنه مصلح -كمال سبقت الإشارة- مما يجعلنا أمام نوعين من الإصلاح: الإصلاح الدعيّ، والإصلاح التوحيدي؛ الأول ضال ومراوغ واسم على غير مسمى، والثاني هو وحده الجدير باسمه وهو مفتاح الاستقامة

يجلي صاحب الكلمات المظلومة الإشكال الثالث حينما أشار إلى مفهوم الإصلاحات، حيث عبر الشيخ البشير الإبراهيمي عن رؤيته هذه بقوله: “وليهدأ بالُ قادة الإصلاح الديني الإسلامي، فإن إصلاحهم لا يدخل في هذا الجمع المؤنث؛ إذ هو إصلاح حقيقي ينطبق لفظه على معناه انطباقا عادلا لا ظلم فيه ولا غبن.. وإنما أعني هذه الإصلاحات “الفاسدة” التي يكثُرُ الحديث عليها في هذه الأيام من الدول والحكومات، فكلَّما تعالتِ الأصوات من الأمم المطالبة بحقِّها في السياسة والحياة، كانت العُلالة التي تسكت بها الأصوات، كلمة “الإصلاحات”، فتتطلَّع الأعناق، وتتشوَّف النفوس، ثم تفتح الأعين على مهازل لا تسدُّ خلّة ولا تدفع ألما.. ليت شعري! هل عرَف القوم أن هذا الاسم وحدَه مُشعِرٌ بأن ما قبله إفساد؛ إذ لا يكون الإصلاح إلا لحالة فاسدة، فإذا تبجّحوا بأنهم بهذه الإصلاحات مصلحون، فقد اعترفوا بأنهم كانوا مفسدين”.

الإشكال الرابع يتعلق بعيوب التنقيص لمفهوم الإصلاح حينما يربط فكرة الإصلاح بإصلاح الذات، ولا يمده على استقامته للإسهام في إصلاح الغير ضمن رؤية جمعية شاملة لفهم الإصلاح ضمن معادلة الصالح في ذاته المصلِح لغيره.

أما معنى التنقيص الآخر فإنما يعود إلى استخدام يتحدث عن الإصلاح في مواجهة الثورة، فيتحدث عن الثورة باعتبارها تغييرا جذريا، وعن الإصلاح باعتباره تغييرا تدريجيا. وهو مدخل للتمايز بين مصطلحين؛ النظر الأساس لهما أن تكون الثورة واحدا من أهم أشكال الإصلاح حينما ترتبط بفعل جمعي مفاجئ وسريع ضد تراكم مظالم أدت إلى القيام باحتجاجات استمرت حتى تتخذ شكل ثورة على الأوضاع القائمة.

وحقيقة الأمر أن الإصلاح بهذا الاعتبار فكرة شاملة تشير إلى الأشكال والمستويات المختلفة باعتبارها جملة من الأشكال والأدوات التي تتعلق جملة بالإصلاح، وتشكل مسالك متكافلة ومتكاملة في هذا السياق، من مثل الإصلاح التربوي والإصلاح الديني والإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي؛ وجملة الإصلاح الجذري والإصلاح التدريجي.

الإصلاح بهذا الاعتبار فكرة شاملة تشير إلى الأشكال والمستويات المختلفة باعتبارها جملة من الأشكال والأدوات التي تتعلق جملة بالإصلاح، وتشكل مسالك متكافلة ومتكاملة في هذا السياق، من مثل الإصلاح التربوي والإصلاح الديني والإصلاح الاقتصادي والإصلاح السياسي؛ وجملة الإصلاح الجذري والإصلاح التدريجي

ولكن لا يمكن استغراق فهم الإصلاح بأنه عمل تدريجي في قبالة التغيير الجذري فنختص الإصلاح بالتدريج ونختص الثورة بالجذرية، وهي واحدة من الإدراكات الغربية للأمرين؛ تحتاج مزيدا من الفهم لكمالات هذا المفهوم في شموله وامتداده.

الأمر الخامس والذي يعالج إشكالا مهما يتعلق بأزمة النقل والحمل والترجمة، وهي تحمل مضامين في معنى الإصلاح على الطريقة الغربية قد تختزل عملية الإصلاح في شكل معين وربما توجه إلى مسلك فيه بما يسمى إعادة التشكيل، والذي إذا ارتبط بالثقافة الغربية صار ذلك مرتبطا بفهم ما يمكن تسميته بالتحديث أو بالعلمنة أو التغريب.

وقد رصد الأستاذ محمد بريش ذلك الأمر من خلال تأكيده على أن “الإصلاح من المنظور الأوروبي هو إعادة تشكيل، والبحث عن وضع جيد، وحذف وتعويض وتطوير وتعديل وإزالة ما لم يعد صالحا للاستعمال. وكلها معان يستوعبها “مفهوم الإصلاح” في القواميس العربية الذي يلخص المضمون في “إزالة ما يهلك ويفسد ويعوق ويعطل”، وإعادة التشكيل تفترض أن المراد إصلاحه قد انتهى تاريخ صلاحيته، وانقضى زمن حياته، ويحتاج إلى إزالة أو تفكيك ليحل محله شيء جديد تماما، وهو ما يوافق الرؤية الغربية لعملية التغيير واقتلاع القديم والتقليدي لتمكين وترسيخ الحديث والجديد تحت مسمى “الحداثة”، ولعل ذلك قد لمسه الحكيم البشري في كتابه ماهية المعاصرة.

أما الإشكال السادس فيتعلق بتزوير الإصلاح في ذاته حتى أسماه البعض بالإصلاح معكوسا (د. نصر عارف) أو بالإصلاح الضال كما أطلق عليه الحكيم البشري؛ الذي يرى أن “أول شروط الإصلاح الحقيقي هو أن يكون صناعة محلية صرفا في حال الأوطان القُطرية، وصناعة حضارية واعية في حال الكيان الأشمل الأمة. ويشير إلى أن تجارب الإصلاح ومحاولاته عبر القرنين الأخيرين كيف كانت الفكرة ذاتها -عند نقلها من بيئتها إلينا- تتخذ وضعا فاسدا، وتكون دعوة لإصلاح ضال يفضي في التطبيق إلى خلاف ما أراد ناقلوها من فائدة. فالظروف الاجتماعية غير المواتية تؤدي إلى استغلال بعض القيم والأهداف النبيلة مثل الديمقراطية وحقوق الإنسان لتكون طريقا وبابا شرعيا للتدخل الاستعماري في دولنا، وتنفيذ المآرب الاستعمارية”.

وغاية الأمر ما قال الأستاذ محمد بريش رحمه الله رحمة واسعة في مقاله البديع “مفهوم الإصلاح أو نحو إصلاح لفهم المصطلح”، الذي يتمتع برؤية بصيرة في تفحص الكلمات ومصادرها، مذكرا أن القاعدة في فهم المصطلحات تنشأ من الاستعمال، “وحقل استعمال المصطلح الذي بين أيدينا يشهد على غياب الصلاح لدينا في العديد من الميادين، وخاصة في الدواليب والحقول المرتبطة بأدوات السلطة وآليات صنع القرار.. فالاستعمال ينشأ ويسري في المجتمعات بفعل القرار السياسي، لا بتوصيات المجمع اللغوي”.

حقيقة الإصلاح وجوهره هو ما أداه النبي شعيب عليه السلام في دعوته للإصلاح، مؤكدا في بيانه الإصلاحي على حزمة من الشروط ترتبط بهذا الجهد الإصلاحي، وذلك العمل التغييري

وحقيقة الإصلاح وجوهره هو ما أداه النبي شعيب عليه السلام في دعوته للإصلاح، مؤكدا في بيانه الإصلاحي على حزمة من الشروط ترتبط بهذا الجهد الإصلاحي، وذلك العمل التغييري: “إِنْ أُرِيدُ إِلا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ ۚعَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ” (هود: 88). وهي ترتبط بأهم خماسية تتعلق بفعل الإصلاح: “الإرادة (إن أريد إلا الإصلاح)، الأداء والأدوات (ما)، الاستطاعة والوسع الحقيقي لا الزائف (استطعت)، الحضور الإيماني في المعادلة الإصلاحية (وما توفيقي إلا بالله)، الوعي بالسنن والأخذ بالأسباب (عليه توكلت)، أما خاتمة الإصلاح فهو الشعور بضرورة المراجعة المستمرة بفعل الإنابة المستدام (وإليه أنيب)”.

ومن ثم يكون العدوان على مفهوم الإصلاح بتلك الأشكال وما سببته من إشكاليات ترتبط بحملة شعواء على الجانب الحقيقي والأخلاقي والقيمي في مفهوم السياسة، وهو ما سنعالجه في المقال القادم.