نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 17 يناير 2023

يعبر المجتمع المدني عن عافية المجتمع وحيويته، ولعل ما ذهب إليه “جول مجدال” في مساهمته حول العلاقة بين الدولة والمجتمع أمر جدير بالتأمل والتحليل؛ فقد رسم مجدال أربع معادلات حول العلاقة بين المجتمع والدولة؛ اعتبر أن أفضلها هو مجتمع قوي ودولة قوية، وأسوأها هو مجتمع ضعيف ودولة ضعيفة.

ولعلنا نعيش في إطار هذه المعادلة الأخيرة، خاصة في ظل سعي نظام الثالث من تموز/ يوليو إلى تجريف فواعل المجتمع والقضاء عليها دون توفير البديل الحي لها أو حتى القيام ببعض من دورها. ونوضح استراتيجية نظام الثالث من تموز/ يوليو بشأن المجتمع المدني، وذلك على النحو برصد جملة تلك المسارات التابعة العبدة والصادرة من تحت عباءة السلطة.

المسار التشريعي: عانى -ولا يزال- المجتمع المدني المصري من القوانين واللوائح الاستبدادية التي تسكنها الرؤية الأمنية والخوف من أي فاعليات مجتمعية تنشئ استقلالا عن السلطة وأذرعها الطويلة التي تنظم العمل المدني. وقد درجت الإدارات المتعاقبة بما فيها النظام الحالي على استنساخ القوانين السابقة المنظمة لهذا القطاع، بما فيها من مواد معيبة أو قاصرة، وفرضها في القانون الجديد دون تعديل يذكر.

يفرض قيودا مكثفة لا مبرر لها؛ تحد من قدرة المجتمع المدني على العمل الفعلي لها في مجال الحقوق والحريات ويقصر عملها على أعمال تنمية المجتمع. كما يمنح القانون السلطات الحكومية صلاحيات واسعة لحل المنظمات غير الحكومية وتعريض أعضائها للمحاكمة الجنائية، استنادا إلى تهم مبهمة وفضفاضة من قبيل الإخلال بالنظام العام، والإضرار بالأمن القومي

فعقب الحملة التي شنتها منظمات حقوقية محلية ودولية بدعم من الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي اعتراضا على قانون المجتمع المدني الصادر عام 2017، صدر القانون الجديد للمجتمع المدني عام 2019م ولائحته التنفيذية عام 2021م، والذي أبقى -وفقا للعديد من الخبراء والقانونيين والمنظمات الحقوقية الدولية مثل منظمة العفو الدولية- على الجوهر القمعي للقانون القديم؛ حيث يفرض قيودا مكثفة لا مبرر لها؛ تحد من قدرة المجتمع المدني على العمل الفعلي لها في مجال الحقوق والحريات ويقصر عملها على أعمال تنمية المجتمع. كما يمنح القانون السلطات الحكومية صلاحيات واسعة لحل المنظمات غير الحكومية وتعريض أعضائها للمحاكمة الجنائية، استنادا إلى تهم مبهمة وفضفاضة من قبيل الإخلال بالنظام العام، والإضرار بالأمن القومي.

المؤسسات الموازية: تبنّى النظام الحالي نهج نظام مبارك في دعم مؤسسات “رسمية” تقوم بعمل مدني، ولكن بصورة أكثر فجاجة وبجاحة؛ ويتم اعتبارها منظمات حقوقية وتشارك في المؤتمرات الدولية باسم الدولة المصرية، ويستخدمها النظام لتبيض وجهه باعتبارها مساحيق تجميل للتغطية على انتهاكاته لحقوق الإنسان.

ولعل الدور الذي لعبه -ولا يزال- المجلس القومي لحقوق الإنسان في هذا المسار سيظل شاهدا على إجرام النظام وإجرام كل من شارك فيه للتغطية على انتهاكات النظام، خاصة في ملف السجون والمعتقلين، حيث لعب هذا المجلس دورا مشهودا في التأكيد على جودة السجون والتزامها بالقوانين واللوائح، وذلك على غير الحقيقة.

الدور الذي لعبه -ولا يزال- المجلس القومي لحقوق الإنسان في هذا المسار سيظل شاهدا على إجرام النظام وإجرام كل من شارك فيه للتغطية على انتهاكات النظام، خاصة في ملف السجون والمعتقلين، حيث لعب هذا المجلس دورا مشهودا في التأكيد على جودة السجون والتزامها بالقوانين واللوائح، وذلك على غير الحقيقة

كما لا يدخر هذا النظام جهدا في دعم المجالس القائمة وإنشاء لجان ومنظمات حقوقية في العديد من الوزارات والقطاعات الأخرى، تحمل اسم “حقوق الإنسان”، إلا أن جوهر عملها هو حماية النظام من الانتقادات الدولية واستيفاء الشكل دون المضمون، وتسهيل عملية تنكيل النظام بالمعارضين والتغطية على إجرامه في حقهم، والزعم أن النظام ييسر العمل أمام منظمات المجتمع المدني، إضافة إلى اعتبار هذه المؤسسات بمثابة حائط صد للانتقادات التي توجه للنظام وتحمّل جزءا من الضغوط المحلية والدولية عليه في هذا الملف.

المؤسسات البديلة: نظرا إلى أن نظام الثالث من تموز/ يوليو يعلم علم اليقين أن الجميع يدرك أن مؤسساته الموازية معروف من تمثله جيدا، ورغم الدور الكبير والخطير والحقير الذي تقوم به هذه المؤسسات في تغطية جرائم النظام، فنجاحها في ذلك محدود؛ من جانب لأن جرائمه لا يمكن تغطيتها، ولأن هذه المؤسسات لا تؤخذ على محمل الصدق في كل ما تقوم به.

فقد لجأ النظام إلى الاستفادة من عدد من المحترفين الذين يعملون لمن يدفع أكثر، وقد اتحدت إرادتهم مع إرادة النظام، وجنّدوا أنفسهم في تحقيق مصالح النظام وخدمته بقدر ما يدفع لهم، ولأنهم ينطبق عليهم شروط ومواصفات المنظمات المدنية، بل الأكثر من ذلك، بعضهم لديه سابق خبرة في العمل الحقوقي المدني وعلاقات دولية.

استفاد النظام من كل ذلك ووظفه لخدمته، ولم يرف جفن لهؤلاء وهم يعملون ضد كل ما أعلنوا يوما من أنهم يحاربونه ويجرمونه، فها هم يتعاونون مع النظام في ظل كل ما يرتكبه من جرائم، بل ويعملون على تزيين ذلك ومحاولة دعم النظام بالحديث عن أن هذه الانتهاكات موجودة في كل النظم حتى تلك الدول الديمقراطية

استفاد النظام من كل ذلك ووظفه لخدمته، ولم يرف جفن لهؤلاء وهم يعملون ضد كل ما أعلنوا يوما من أنهم يحاربونه ويجرمونه، فها هم يتعاونون مع النظام في ظل كل ما يرتكبه من جرائم، بل ويعملون على تزيين ذلك ومحاولة دعم النظام بالحديث عن أن هذه الانتهاكات موجودة في كل النظم حتى تلك الدول الديمقراطية. فقد أصبح دور هذه المنظمات هو البحث عن انتهاكات حقوق الإنسان في الدول الأخرى وإصدار البيانات والتقارير التي تنتقد ذلك، دون التعرض من قريب أو بعيد لوضع حقوق الإنسان بمصر.

التطويع والتجريم للمؤسسات القائمة: لم يتبن أو ينشئ نظام الثالث من تموز/ يوليو المسارات السابقة عبثا، وإنما جاءت في ظل سياسته الرئيسية التي تبناها في تجفيف ومحاصرة منظمات المجتمع المدني بجانبيها الحقوقي والأهلي- المجتمعي؛ فقد عمد النظام من خلال القوانين والقضايا والممارسات العنيفة ضد المؤسسات والنشطاء إلى تجفيف المجتمع المدني والسعي للقضاء عليه قضاء مبرما، إما في إطار أن منظمات المجتمع المدني هي من لعبت دورا رئيسيا في ثورة يناير، أو أن المنظمات الأهلية والمجتمعية منظمات إخوانية ويجب اجتثاثها من المجتمع المصري.

وفي هذا الإطار لم يدخر النظام أي أسلوب إلا واتبعه؛ من مصادرة المنظمات والتحفظ على الحسابات البنكية والممتلكات والمقار بل والأنشطة، وصولا إلى حبس واعتقال ومنع من السفر وتحفظ على أموال النشطاء وقيادات المجتمع المدني، ودفع العديد منهم إلى المنفى ومحاولة العمل من الخارج. وهو في ذلك لم يتوقف عن مطاردتهم ومحاربتهم وتهديدهم بأهليتهم، ومحاولة إجبارهم على السكوت بما لديه من إمكانات.

الرشاوى الدولية: يعد هذا المسار من أخطرها جميعا بما يمثله من فساد مركب وفيه لجأ نظام الثالث من تموز/ يوليو إلى أكثر من آلية؛ منها الدفاعي ومنها الهجومي، فهو قد عمد إلى تدشين ما أسماها باستراتيجية حقوق الإنسان، وهي الاستراتيجية التي لاقت اهتماما كبيرا من الدول الأخرى التي تجمعه معها مصالح واعتبرت أن هذه الوثيقة دليل على أن قبولها العمل مع هذا النظام أمر مبرر في ظل ما أصدره من وثائق وما تضمنته من إجراءات، دون النظر إلى ما يتم تطبيقه منها على أرض الواقع. فهذا أمر لا يهم في مقابل الرشاوى التي يقدمها نظام الثالث من تموز/ يوليو المتمثلة في شراء الأسلحة، والقروض، وعقود الغاز، وغيرها من إجراءات لا يدقق فيها النظام المصري إلا بمقدار ما توفره له من قبول وشرعية دولية، والدول الأخرى لا تنشغل إلا بما تحققه من مصالح ومزاعم بأن هذا النظام يبذل ما في وسعه؛ بدليل إصداره استراتيجية حقوق الإنسان، وتنظيمه للحوار الوطني، وتعيين لجنة للعفو عن السجناء والمعتقلين؛ بغض النظر عن عملها سواء محدودية عدد المفرج عنهم مقابل من هم في السجون، أو حتى الوافدين الجدد مقابل كل عملية إفراج، أو حتى استغلال هذه الآلية للإفراج عن الضباط المتهمين بالتعذيب أو رجال الأعمال القتلة الذين تربطهم بالنظام مصالح وعلاقات واسعة.

يجرف المجتمع ويعسكره، بما في ذلك الجامعات التي لم تنج من سيطرة الأجهزة الأمنية، بل أصبحت مناطق نفوذ عسكري في ظل نجاح تلك الأنظمة في فرض القيادات بعد إلغاء الانتخابات والعودة إلى آلية التعيين، وكذلك إجبار الأساتذة الذين يحاولون المعارضة على الاستقالة أو السجن أو المنع من الكتابة أو التدريس

تأميم وتعبيد النقابات المهنية والجامعات المصرية: جرى تأميم النقابات المهنية بعجلة كبيرة عقب الانقلاب؛ حيث صنع نظام الثالث من تموز/ يوليو انقلابات صغيرة في تلك النقابات المهنية، وعمل على تدجينها وإلغاء أي نشاط يخص المجال العام، وأبقى فقط على ما يحتاجه منها للقطة والصورة، مما نزع منها أي فاعلية وكل حياة، فلم يعد أحد يسمع عن نشاط هذه النقابات التي كان لها دور تحت ضغط نظام مبارك، ولكن نظام الثالث من تموز/ يوليو لا يعترف بمثل هذه الكيانات، بل يعمل على القضاء عليها تماما.

فهو يجرف المجتمع ويعسكره، بما في ذلك الجامعات التي لم تنج من سيطرة الأجهزة الأمنية، بل أصبحت مناطق نفوذ عسكري في ظل نجاح تلك الأنظمة في فرض القيادات بعد إلغاء الانتخابات والعودة إلى آلية التعيين، وكذلك إجبار الأساتذة الذين يحاولون المعارضة على الاستقالة أو السجن أو المنع من الكتابة أو التدريس، ناهيك عن تجميد نوادي أعضاء هيئة التدريس، والأخطر من كل ذلك هو قتل الحركة الطلابية، تلك الحركة التي كانت موجودة في كل الأنظمة السابقة رغم القمع والتضييق؛ سواء نظام جمال عبدالناصر، أو السادات أو مبارك، فقد كان لها في ذلك الوقت تأثير بدرجة من الدرجات، ولكن الآن لم يعد موجودا بالمرة، في ظل الحصار الشديد على جميع أطراف العملية التعليمية.

خلاصة الأمر في النظر العام المتمثل في عسكرة المجتمع بما فيه المجتمع المدني؛ أنه لا يمكنه مع هذه الحال أن يشكل فعالية أو دورا في ظل غياب التوازن في المجتمع، نظرا لهيمنة المكون العسكري وفرض أسلوبه على كافة المؤسسات؛ حيث جعل نظام الثالث من تموز/ يوليو أحد أهم مسالكه اختطاف المجتمع المدني ووضعه تحت السيطرة الأمنية.