نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 24 يناير 2023
كلما بعُدت بنا السنين وتذكرنا 25 يناير في العام2011، تلك الثورة العظيمة التي تُمثل أحد أهم أحداث القرن الحادي والعشرين في تاريخ مصر المعاصر وفي التاريخ العربي، يدور جدل كبير حول معاني الفشل والهزيمة، ويثور جدل أكبر حول تسمية هذه الأحداث.. ولكن في حقيقة الأمر وجب علينا ألا نضع أحداثا كبرى كتلك؛ ضمن الضغوط التي تتعلق بالأفق الراهن من انحطاط وانتكاس، وذلك الأمر الذي يتعلق بحالة الاختناق في الموقف وفي المنطقة العربية بوجه عام، وحالة التدهور التي تشكلت في حصار تلك الأحداث التي تتعلق بالثورات العربية في موجاتها المختلفة التي تحدث هنا وهناك، ومع ذلك الفرز الذي حدث بين تحالفين أساسيين في المنطقة؛ تحالف يتعلق بالتغيير تمثله كثير من الشعوب العربية التي تحمل أشواق التغيير، وتحالف آخر يحافظ على الأمر الواقع ويمجد الاستقرار ويقف ضد التغيير تمثله كثير من النظم القائمة.
بين هذين التحالفين اللذين يتدافعان حول عملية التغيير تخرج تقييمات هنا وهناك تتعلق بالنصر والهزيمة، فيتحدثون بأن الثورات لم تتوارَ فقط ولكنها اندثرت من جراء هزيمة كبرى أحاطت بها وبعالم أحداثها، وبكل هؤلاء الذين كانت لهم مصلحة في الثورة والتغيير.
نفس هذا الفريق ومع امتدادات أخرى من بعض الأجنحة التي قامت بتلك الثورات؛ يتحدثون في المقابل بأن المضادين للثورة قد حققوا انتصاراً حاسماً في تلك المعركة الأخيرة، وفق تقديرهم لمعاني النصر والهزيمة. وحينما نؤكد أن ثورة كـ25 يناير، الثورة الحقيقية، لم تندثر فلدينا شواهد كبرى على هذا؛ أولها تلك الهواجس الكبيرة التي لا زالت تسكن التحالف الآخر، فيخشى الشعوب وحركتها، ويخاف الاحتجاجات الجماهيرية وفاعليتها. ومن ثم فإنه ضمن تلك الهواجس الكبرى التي تصل إلى حد الرعب من نذر قد تلوح هنا وهناك تنادي بالتغيير، يحسبون كل صيحة عليهم، وغير ذلك من شواهد ليس ذلك المقام هو مجال لسردها، ولكن ربما تكون لنا فرصة أخرى لتشريح مآلات تلك الثورات والاحتجاجات، وما وصلت إليه من أحوال.
حينما نؤكد أن ثورة كـ25 يناير، الثورة الحقيقية، لم تندثر فلدينا شواهد كبرى على هذا؛ أولها تلك الهواجس الكبيرة التي لا زالت تسكن التحالف الآخر، فيخشى الشعوب وحركتها، ويخاف الاحتجاجات الجماهيرية وفاعليتها. ومن ثم فإنه ضمن تلك الهواجس الكبرى التي تصل إلى حد الرعب من نذر قد تلوح هنا وهناك تنادي بالتغيير، يحسبون كل صيحة عليهم
ومن المؤكد أن الثورة وأشواق التغيير لم ولن تندثر ولن تعود إلى الحال فيما قبلها، وأن هؤلاء الذين تصوروا أن المعركة انتهت لا يمكن لهم وصف الوضع الذي آلت إليه تلك الثورات بالانتصارات، فإن الهزيمة والنصر في الأحداث الكبرى لا يقاسا بسنوات قليلة، ومآلات وآثار مباشرة، ولكن الأمر يحتاج إلى تحليل أعمق وأوصاف أدق، وتعميمات أقوم؛ ذلك أن تلك الظواهر المتعلقة بالتغيير لا بد أن ترتبط بمدى زمني أكبر وأطول، تتحقق فيه من المآلات التي تركتها، حتى لو كانت هذه الآثار كامنة وتشكل احتمالات لقيام ثورات أخرى أو إدارة التدافع على طريق التغيير.. هذا هو شأن اللحظات الكاشفة والفارقة.
في ظل هذه الرؤية تمر علينا نسمات ثورة يناير هذا العام ومصر تعيش أوضاعا سياسية واقتصادية واجتماعية شديدة الوطأة، وهي مناسبة لأن نذكركم للمقارنة بما كانت تنشده الثورة من تمكين دولة يناير عندما يقدر لها الوجود والتمكين والتي تحدث عنها العديد من أبناء ثورة يناير، وصاغ الشاعر عبد الرحمن يوسف في معالم واضحة محددة في مقال سابق:
1- دولة مدنية: حكامها مدنيون، والجيش فيها منصرف لوظيفته الأساسية (التسليح وحماية الأمن القومي) لا يشتغل بالسياسة أو الاقتصاد ولا ينحاز لأي فئة أو تيار.
2- دولة ديمقراطية: تحترم فيها نتائج الإرادة الشعبية، ومبدأ التداول السلمي للسلطة، والآليات الديمقراطية المتعارف عليها، وتُجرم فيها الانقلابات العسكرية، أو التغيير بالعنف، أو التلويح بالقوة.
3- دولة العدلة الاجتماعية: تهتم بتحسين معاش الناس وأحوالهم، وبالأخص الطبقات الفقيرة والمهمشة، تعمل على تذويب الفجوة بين الفقراء والأغنياء، وتعتمد على مبدأ الكفاءة والجدارة والاستحقاق، وليس المحسوبية والوساطة التي تفتح أبواب الفساد واسعا في تولى الوظائف العامة.
4- دولة الحريات التأسيسية: تحترم حرية الاعتقاد، وحرية الرأي والتعبير، وحرية التنقل، وحرية تكوين الأحزاب والجمعيات، وحرية العمل السياسي، وغيرها من الحريات التأسيسية والأساسية للإنسان.
5- دولة الكرامة الإنسانية: تحترم كرامة الإنسان، وتحفظ آدميته، وتحفظ حقوقه التأسيسية، كالحق في الحياة، والحق في السكن، والحق في العمل، والتعليم، والصحة، وغيرها بما يحفظ ضروراته وكيانه.
6- دولة الاستقلال الوطني: ضد التبعية للخارج أيا كان شكلها، سياسية أو اقتصادية أو ثقافية، تحدد خياراتها وتتخذ قرارتها من الداخل، تتعامل بنِدِّيَّةٍ في ميدان السياسة الخارجية، وتتخذ من المصلحة العليا للوطن معيارا حاكما لكل تصرفاتها الخارجية والداخلية، وتسعى إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي في معظم المجالات، وعلى رأسها الدواء والغذاء والسلاح، لضمان استقلال الإرادة والخيار والقرار.
7- دولة القانون: يطبق فيها الدستور والقانون على الجميع بلا استثناء، وتتحقق فيها عدالة ناجزة، يقتص فيها من كل القتلة والمجرمين والمفسدين، مهما كانت مراتبهم أو أماكنهم القيادية.
8- دولة المؤسسات: تنهي حكم الفرد وتستبدله بحكم المؤسسات المتكاملة التي تعمل بشكل تلقائي، تتكامل فيه تلك المؤسسات، وتتوازن السلطات، دون الحاجة إلى الزعيم الملهم، أو القائد البطل، أو الحاكم الفرد.
9- دولة العدل والمساواة والمواطنة: يتساوى فيها المواطنون جميعا في الحقوق والواجبات، دون تمييز على أساس الدين أو العرق أو الطبقة أو اللون أو النوع.
10- دولة ذات هوية: تحترم الهوية العربية الإسلامية للمجتمع المصري، وتنطلق منها في تطبيقات السياسية الخارجية، فتولي اهتماما أكبر بالدوائر العربية والإسلامية، نحو استعادة الدور التاريخي لمصر مجددا.
11- دولة التعددية: تحترم التنوع الديني والثقافي والفكري والمذهبي في المجتمع المصري، وتعمل على ترسيخ ثقافة التعايش بين المختلفين، على قاعدة العدل والمساواة.
12- دولة الشفافية والمساءلة والمحاسبة: تنهي عصر الفساد والاستبداد وتركيز المعرفة في يد السلطة، وتمكن المواطنين من الإلمام بكل ما يجري في وطنهم من خلال اعتماد مبدأ الشفافية وإتاحة المعلومات للجميع، من أجل تمكين المواطنين من المشاركة الإيجابية في قضايا وهموم الوطن والمواطن، وتحقيق الرقابة الواجبة ضمن تفعيل أدوات المحاسبة والمساءلة.
13- دولة المشاركة في المجتمع والسياسة والتنمية: لا تُقصى طرفا، أو تستبعد أحدا، أو تهمش أي طاقة أو فاعلية، توزع بعدل عوائد التنمية، تبني مجتمعا مدنيا قويا قادرا على التأثير في مواجهة التحديات المجتمعية.
14- دولة تستند إلى الحفاظ على الجماعة الوطنية: تحافظ على لُحمتها وتماسكها، وتؤكد على كل ما يؤمن عليها سلامها المجتمعي، وتجنيبها أي فكر أو ممارسة يمكن أن تودي بها إلى مساحات الكراهية داخل الوطن، أو تدفعها إلى ساحات الاقتتال الأهلي.
15- دولة تمكين الشباب: التي تحقق آمال هذا الوطن، وهي في ذات الوقت شرارة الثورة والتغيير، وهي كذلك طاقة العمل الفاعلة. آن الأوان أن يتصدر الشباب ليس فقط المشهد الثوري، بل ومشهد بناء الدولة والمجتمع، والمؤسسات الفاعلة فيهما، لأن الشباب أكثر من نصف الحاضر وكل المستقبل.
دولة يناير التي نريد هي التي تعلي مصلحة “الوطن” العليا، وتؤكد على حقوق هذا “الشعب” الأساسية وتحقق احتياجاته، وضروراته المعيشية، والتي تحقق أهداف الثورة، وأن تؤكد على مكتسباته. والدولة وفق هذا التصور هي: دولة راشدة عادلة فاعلة، دولة لا تجعل من المواطنة “متاهة” تصنعها أو “مصيدة” تضعها لكل إنسان يعيش على أرض هذا الوطن
ما نؤكد عليه أن دولة يناير التي نريد هي التي تعلي مصلحة “الوطن” العليا، وتؤكد على حقوق هذا “الشعب” الأساسية وتحقق احتياجاته، وضروراته المعيشية، والتي تحقق أهداف الثورة، وأن تؤكد على مكتسباته. والدولة وفق هذا التصور هي: دولة راشدة عادلة فاعلة، دولة لا تجعل من المواطنة “متاهة” تصنعها أو “مصيدة” تضعها لكل إنسان يعيش على أرض هذا الوطن. الوطن ليس ولن يكون مصيدة، ولكنه وعاء يحتوي الناس فيشعرون معه بالذات الفاعلة، والدولة الراشدة، والعدل الشامل، والأمن العام، والخصب الدائم والأمل الفسيح.
إن من أهم النتائج لعودة المضادين للثورة لمقاعد الحكم والتحكم بشكل مباشر لا مواربة فيه، بعد أن رأت بأعينها الخطر يحدق بمصالحها ومواقعها المحتلة للأوطان، وبعد أن انكشفت كل عوراتها وانفضحت كل سوءاتها.. فلم يعد اليوم ما كنا نسميه بـ”الدولة العميقة”. إنها اليوم الدولة المنكشفة، المفضوحة، الوقحة، التي هي أشبه بالطعام المكشوف الذي يقع عليه الذباب القذر؛ ذباب الفسدة والمنافقين والمنتفعين الطفيليين المتغذين على دماء الشعب وعرقه؛ مساره ومصائره، كرامته وحريته.. عصابة حاكمة، وشلة من منتفعي السبوبة من دولة الأمر الواقع التي شيدوها، دولة الضد والمؤسسات المختطفة تحت التهديد، المسماة زورا “الجمهورية الجديدة”، والتي تعرفنا على بعض مؤشرات اختطاف مؤسساتها وسنتعرف على المزيد من سماتها الدالة على ظلمها وخراب عمرانها.