نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 31 يناير 2023
لا يترك نظام الثالث من يوليو أي مؤسسة من مؤسسات الدولة إلا ويبذل كل الجهود لتحقيق الهيمنة والسيطرة والتحكم بما في ذلك إفسادها وتخريبها، فالمهم لديه ألا تقوم هذه المؤسسات بوظائفها الأساسية والجوهرية المنوطة بها، بل هو ضمن مفهومه لدوله الضد وضمن عملية الاختطاف الكبرى التي يقوم عليها حريص على أن تقوم تلك المؤسسات بعكس وظيفتها ومضادة لما يجب عليها القيام به. ولم تكن المؤسسة الدينية بعيدة عن ذلك التصور، ولعل المشهد المركزي الفارق للانقلاب العسكري في الثالث من تموز/ يوليو 2013م وحضور هذه المؤسسات، له دلالة على إدراك هذا النظام لأهميتها الرمزية وأدوارها ضمن مؤسسات أخرى في إضفاء شرعية على النظام وسياساته.
وقد استمرت جهود هذا النظام في عملية ممنهجة لتخريب وتوريط هذه المؤسسات وتجريدها من طبيعتها ولفتها عن دورها، ومن جملة ذلك استوزار من لا يليق للتعبير عن هذه المؤسسات وتمثيلها، والقيام بكل ما من شأنه يوافق رغبات منظومة الحكم الطاغية من أجل استمراريته في مقامه لا يغادره، اعتمادا على شخصيات تنهض بهذه الأدوار وفق ما يملى عليها.
سياسات يرتكبها نظام الثالث من يوليو في تدمير هذه المؤسسة، شأنها شأن مؤسسات الدولة الأخرى، ويعاونه عدد من أبناء تلك المؤسسة نفسها؛ لديهم العديد من الأسباب التي يبررون بها لأنفسهم قبولهم أداء هذه الخدمات وقبولهم هذا الدور المخزي في خدمة هذا النظام
وفي ذات الوقت يواجه النظام العلماء أصحاب كلمة الحق ويهمش أدوارهم ويشوه صورتهم، حتى لو جاءوا ضد إرادتهم خاصة لو كان من شروط اختيارهم أن يتم انتخابهم، حيث ارتكب هذا النظام فعلا فاضحا لم يسبق له مثيل، برفضه اعتماد نتيجة الانتخابات في مجمع اللغة العربية عام 2020، وبعد مرور شهر من الانتخابات صدر قرار وزير التعليم العالي بتعيين الخاسر في تلك الانتخابات. ونشير إلى ذلك كمثال عن المدى الذي وصل إليه هذا النظام في علاقته مع مثل هذه المؤسسات ورجال الدين والعلم.
فالمثال السابق الإشارة إليه يعد نموذجا لما يجري من سياسات يرتكبها نظام الثالث من يوليو في تدمير هذه المؤسسة، شأنها شأن مؤسسات الدولة الأخرى، ويعاونه عدد من أبناء تلك المؤسسة نفسها؛ لديهم العديد من الأسباب التي يبررون بها لأنفسهم قبولهم أداء هذه الخدمات وقبولهم هذا الدور المخزي في خدمة هذا النظام، ولا يعتبرون أو يتذكرون دور سلطان العلماء “العز بن عبد السلام” الذي لم يخش في الله لومة لائم ووقف في وجه الظلم والاستبداد ونادى بأعلى صوته: “.. أمراء للبيع! أمراء للبيع”.
وقد تحدثت عن ذلك في مقال سابق لي وبيّنت “التوظيف المباشر للخطاب الديني الإسلامي في تبرير الانقلاب وتمريره، والمدافعة عن ممارساته والهجوم على خصومه، وما اشتمل عليه هذا التوظيف من استغلال مصادر وأساليب وأدوات شرعية، وقبل هذا وبعده ما اشتمل عليه من غايات ومنطلقات هذه المؤسسات والقيادات، ساهم في تمكين هذا الانقلاب وتسويق استبداده وفساده، والمشاركة فيه بكل ما أوتي من قوة.
ومن ثم لا ينفصل تصور السيسي وخطابه عن خطاب ديني يهلل للانقلاب ويبرره، ويهاجم الإسلاميين والإخوان في رؤيتهم وفكرهم وممارساتهم، ويتهمهم بالشرور كلها؛ وأهمها: تشويه وتحريف الإسلام والمتاجرة به”
لقد ارتضى هؤلاء أن يكونوا “ظهيرا دينيا في حلف المضادين للثورة، عيونهم وكلماتهم تتلمس رغبات السلطات وتسهم بخطابها إسنادا للاستبداد والوقوف ضد إرادة الشعوب وأشواقها للتغيير، في كل مرة ينضم علماء السلطان لحلف الظالمين، ويتساءل عالم المظلومين أين سلطان العلماء؟!”.
إن تأمل أحوال العلاقة بين نظام الثالث من يوليو والمؤسسات الدينية، وإصراره الكبير على وضع المفخخات في طريقها وتشويه صورتها وصناعة الأزمات للمؤسسات التي لا تأتمر بأمره ولا تنفذ رؤاه وأطروحاته، لهو أمر جدير بالمتابعة. فقد كانت نتيجته أن هذه المؤسسات إما أنها أصبحت تقوم بضد وظيفتها تنفيذا لرأيه وتصوراته التي لا علاقه لها بالدين من قريب أو بعيد، أو أنها لم تعد تملك أن تقوم بدورها في ظل الإشغال والتعطيل الذي يمارس ضدها لحرفها عن مسارها وطريقتها المناسبة. وهو في الأمرين مستفيد ومحقق لأهدافه، حتى يفرغ الساحة لعمل المؤسسات الدينية التابعة له، التي تخضع لهيمنة مؤسساته الأمنية ولا تخرج عن أوامره وخططه واستراتيجياته، وتنفذ ما يملى عليها من تلك الأجهزة التي تستخدم هذه المؤسسات للتحكم في الناس وفرض الاستبداد وتسويغه، وإبعاد من يرفضون أفكاره المسمومة من خلال تحكمه في كافة المسارات الإعلامية والسياسية والبيروقراطية.
تأمل أحوال العلاقة بين نظام الثالث من يوليو والمؤسسات الدينية، وإصراره الكبير على وضع المفخخات في طريقها وتشويه صورتها وصناعة الأزمات للمؤسسات التي لا تأتمر بأمره ولا تنفذ رؤاه وأطروحاته، لهو أمر جدير بالمتابعة. فقد كانت نتيجته أن هذه المؤسسات إما أنها أصبحت تقوم بضد وظيفتها تنفيذا لرأيه وتصوراته التي لا علاقه لها بالدين من قريب أو بعيد، أو أنها لم تعد تملك أن تقوم بدورها
لقد شهدت سنوات الانقلاب دورة من العلاقة الآثمة بين الانقلابيين وظهيرهم الديني من أجل أن يزيّن لهم باطلهم بفتاوى جعلت الانقلاب سنة لا بدعة فيها، وهداية لا ضلالة فيها، فصدرت الفتاوى المارقة التي تبيح للانقلاب أن يوغل في الدماء بدون حد أو قيد، وقد وصل الحال بأحد أذناب الانقلاب أن يقول “اضرب في المليان”، “طوبى لمن قتلهم وقتلوه”، بل ويبشرهم بأنهم على الحق، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل برزت خطابات وحملات وفتاوى ومخططات كلها تستهدف احتكار الإسلام وتشويهه في ذات الوقت أمام العالم؛ بوصفه مصدراً للإرهاب، ولأجل ذلك أُطلقت الأصوات النابحة التي تسيء إلى السنة النبوية وأئمة الإسلام والعلماء والفقه والتاريخ والتراث الإسلامي.
إن شيخ الأزهر وبما يمثله يحاول أن يبدي رأيا مستقلا وفقا لمهمته المنوطة ووظيفته الرمزية الجليلة؛ إنما يحاول من خلال مواقفه المختلفة أن يعبر عن اختلافه مع بعض تكييفات السلطة السياسية في محاولة منها لتأميم الدين لمصلحتها. وهو في هذا المقام يعبر في بعض مواقفه عن خصومة لا يغفلها السيسي في خطابه؛ حينما يخاطب شيخ الأزهر بأنه “أتعبه” بمخالفته لبعض ما يراه ويتصوره.
ومن ثم ظلت مؤسسة الأزهر مؤسسة تحت التهديد المباشر إن هي لم تقبل عملية الاختطاف الكامل التي يخطط لها هذا النظام، بينما نرى مؤسسات أخرى رسمية من مثل وزارة الأوقاف، وكذا دار الإفتاء، تقوم بكل ما من شأنه أن يبرر للسلطة طغيانها ويسوّغ لهذا النظام استبداده. والشواهد على ذلك كثيرة من مواقف وسياسات يبتدعونها في خدمة النظام، وفي فتاوى تصدر هنا وهناك لكل ما يتعلق بتمرير ما أحدثه ذلك النظام من فشل في إدارة الدولة.
ولعل دخول المفتي على الخط في هذا المقام لمواجهة أزمة النظام الاقتصادية؛ من فتوى يسمح فيها للنظام بأن يجمع زكاة عموم الناس لعامين قادمين، كل ذلك، مع التصديق على أحكام إعدام ظالمة وملفقة، إنما يشكل في حقيقة الأمر مؤسسات انبطحت انبطاحا كاملا في خدمة هذا النظام، ومؤسسة أخرى أرادت أن يكون لها دور يسمح بوجود مسافة بين النظام وسياساته، وبين أدوارها الدينية التي يجب أن تقوم بها وعليها. الأمر هنا إنما يشكل في النهاية مفارقة خطيرة بين مؤسسات علماء السلطان التي شكلت أذرعا لطغيان هذا النظام، وبين سلطان العلماء الذي ما زال يبحث عن ساحات ومساحات استقلاله لأداء وظائفه الدينية في المجتمع.
نموذج العلاقة بين نظام الثالث من يوليو والأزهر الشريف يؤكد أن هذا النظام لن يقبل بهامش حركة ولو قليل لأي مؤسسة دينية، مهما علت قيمتها ومكانتها في الأمة والعالم، فالنظام لا يتورع عن أن يقضي على الأزهر الشريف -بكل ما له من ثقل ووزن تاريخي- لأنه يرفض إقرار رأيه الذي يخالف الشرع الحنيف
إن نموذج العلاقة بين نظام الثالث من يوليو والأزهر الشريف يؤكد أن هذا النظام لن يقبل بهامش حركة ولو قليل لأي مؤسسة دينية، مهما علت قيمتها ومكانتها في الأمة والعالم، فالنظام لا يتورع عن أن يقضي على الأزهر الشريف -بكل ما له من ثقل ووزن تاريخي- لأنه يرفض إقرار رأيه الذي يخالف الشرع الحنيف؛ فقط لأن قائد النظام يرى ذلك، ويرى أيضا أن مهمته الدينية أن يقوم بالسيطرة على كل ما يتعلق بالمعتقد الديني ويعتبره من وظائف السلطة التي تقوم عليها، وهو الذي يحدد كذلك متطلبات تجديد الخطاب الديني وفق ما يراه هو؛ إعمالا لاستشهاده الشهير الذي يجعله في رتبة الأنبياء.
فتارة يحدث بـ”وفهّمناها سليمان” وأخرى يشبه نفسه بسيدنا يوسف عليه السلام، بل لا يتوانى عن القول بأنه مؤيد من الله، وهو ما يجعله يقود تجديدا دينيا مطلوبا، لكن في حقيقة أمره لا يطلبه في ذاته ولكنه يستغله لمزيد من هيمنة وسيطرة، كما رأى بعض الخبراء في تقييمهم لسياساته تجاه المؤسسة: “ما يحدث لا يستهدف التأثير على حركة الإصلاح في المجتمع المصري فحسب، بل يرقى إلى مستوى الصراع من أجل السيطرة على الهيئات الدينية”.