نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 2 مايو 2023
لم يُعرف أن للمواطنة صنوفاً وأشكالاً في العصر الحديث ومستبديه إلا في جمهورية السيسي الجديدة، ففي ظل الاستبداد المعسكر وحكمه وتحكّمه، سادت أنماط التفكير والسلوك العسكريين التي هيمنت على كامل المنظومة وكافة أشكال المجتمع وفق تصورات العسكر التي حشرت كل الفعاليات المجتمعية ضمن منظومتها العسكرية، وتفكيرها المعسكر.
وفي واقع الأمر فإن هذه العسكرة في ساحات المواطنة إنما تنصرف إلى مسلكين؛ أولهما يتناول كل ما يتعلق بتصور العسكر للمواطنة “العبدة” و”المذعنة” ضمن سلسلة الأوامر العسكرية التي لا تغادر تلك المنطقة في التعامل، أي كانت تلك المواطنة المجتمعية وأي كانت أشكالها المدنية، فهو لا يعترف إلا بحقوق “العسكري” فقط. أما المسلك الثاني فإنه يتعلق بتصور المدني ضمن أساليبه التي غالباً ما تقع في تصوره العسكري مرتبطة بالفشل والاهتراء؛، حيث أن كل فشل يُسند إلى المدني وكل نجاح يلتصق بالعسكري، ومن هنا كان ذلك التمييز في “عنصرية عسكرية” جديدة تحاول أن تصنف المجتمع مدنياً أو عسكرياً وفقاً لرؤيتها.
في سياق هذين المسلكين كان تصور المواطن العادي المدني المتهم دوماً بالقصور، وتصور المواطن العسكري الذي بمواطنيته يأخذ كل المزايا والإيجابيات مهما فعل من سيئات وسلبيات، وصار ديدنهم ضمن سياساتهم هو تمييز “العسكري” في كل شيء، ليس فقط في معاشهم ولكن في كل أمورهم وصولاً إلى تنزيههم عن الخطأ، وتبرئتهم من الفشل
ومن هنا فإن منظومة كتلك لا ترى في إسناد المسؤوليات، وافتراض أنها من أهم سبل الخروج من الأزمات، إلا إذا كان ذلك مرتبطاً بالصنف العسكري وفق تصور يتعلق بكونه “أبو العرّيف” أو “حلّال العقد والأزمات”، فإذا ما تأزّم الأمر لدى العسكري المسندة إليه المهمة وطالبه البعض بعد فشله بالرحيل أو الاستقالة، لم يكن منه إلا كل تبجح بأن “العسكري لا يفر من الميدان”، ولا يترك مكان المعركة”، هو ذلك الشخص المعصوم الذي لا يطاوله الفشل، والأقرب إلى خطابهم في تلك الحال اتهام عامة الناس أو الجانب المدني زوراً وبهتاناً. هكذا هو حال العسكر في بلادنا يحكمون ولا يُحاكمون ولا سلطان فوقهم، ومن ثم فإن المقولة التي ترد في هذا المقام عن العرب “من أمن العقوبة أساء الأدب” نجدها في الجمهورية الجديدة التي يبشرون بها ويزعمونها وجوداً، باتت لها أبعاد أخرى، فهو أساء وتجاوز في فعله وعمله وتحكمه وطغيانه، فهو الحاكم بأمره، لا يفشل ولا يُسأل.
في سياق هذين المسلكين كان تصور المواطن العادي المدني المتهم دوماً بالقصور، وتصور المواطن العسكري الذي بمواطنيته يأخذ كل المزايا والإيجابيات مهما فعل من سيئات وسلبيات، وصار ديدنهم ضمن سياساتهم هو تمييز “العسكري” في كل شيء، ليس فقط في معاشهم ولكن في كل أمورهم وصولاً إلى تنزيههم عن الخطأ، وتبرئتهم من الفشل، براءة أصلية لا معقب عليها.
هذه الرؤية وذلك التصور كان في حقيقة الأمر شكلاً من أشكال “العنصرية المعسكرة”، وباباً من أبواب اختطاف المواطنة، ولعل ذلك عليه من الشواهد الكثيرة ذكرنا بعضها من قبل، وسنأتي على تصنيف لها من بعد، ولكن من الأهمية بمكان أن نؤكد أن المقولة الحاكمة في ذلك حينما سَأل كبيرهم الذي علمهم العسكرة عن تقصير في مشروع معين كان يتفقده، جاءه الرد مقترناً برتبة عسكرية، فلم يعجبه وتخطاه صارخاً: “فين المدني اللي هنا؟” حتى يسأله عن ذلك التقصير ويلبسه ثوب الفشل ويقوم كما يقول المثل المصري “بمسح الأرض به”؛ هكذا هو حال “العسكر” وحال المواطن “المدني” ضمن علاقة مشوهة حتى في باب المواطنة.
تمتد العسكرة إلى مساحات غير مطروقة من قبل، مثل فحص الأوراق ومقابلات التعيين في المؤسسات الحكومية المدنية؛ والتي باتت تتم بحضور كبير العسكر، وبالتعاون مع الأكاديمية العسكرية المصرية، ويتم عقدها في مقر الكلية الحربية في معظم الأحيان. وقد رصدت وسائل الإعلام مشاركة قائد منظومة الثالث من يوليو ومعاونيه العسكريين من وزير الدفاع ورئيس الأكاديمية العسكرية في اختبارات المتقدمين للالتحاق بعدد من الوظائف المدنية في الهيئات التابعة لوزارة النقل، وكذلك وزارة التربية والتعليم.
كما احتفلت الأكاديمية العسكرية مؤخراً بتخرج الدفعة الأولى من مأموري الضرائب المرشحين للعمل في مصلحة الضرائب المصرية، بعد إتمام دورتهم التدريبية في الكلية الحربية بالتنسيق مع وزارة المالية، وخضوعهم للتدريب في المنشآت التعليمية بالقوات المسلحة.
ما جرى في السودان أكبر من أن يُحاط به في مثل هذه المساحة؛ فقد كشفت التحركات عن قصور كبير وفاضح، بدءاً من التصريحات وصولاً إلى الفعل والسياسات؛ حيث انشغلت منظومة الثالث من يوليو بالمواطن “العسكري” فقط دون المواطن العادي “المدني” حتى ولو كان دبلوماسياً، ومع ذلك فقد كان التعامل المصري مخزياً ودون التوقعات المنخفضة أساساً
هكذا يتضح أن المؤسسة العسكرية باتت مسؤولة عن تدريب واختبار أي متقدم للوظائف العامة في الجهاز الإداري، وإخضاعه لدورات حول “مقتضيات الأمن القومي”، بناءً على تعليمات مباشرة من قائد منظومة الثالث من يوليو، للتأكد من ميولهم السياسية تجاه السلطة الحاكمة، وعدم تسرب أي معارضين لها في جهاز الدولة،؛ فهذا هو تعريفهم المباشر والصريح للأمن القومي، ولا ينشغلون بأبعد من ذلك قيد أنملة، ويؤكد ذلك الكثير من الأحداث ومنها ما حدث مؤخراً في السودان.
إن ما جرى في السودان أكبر من أن يُحاط به في مثل هذه المساحة؛ فقد كشفت التحركات عن قصور كبير وفاضح، بدءاً من التصريحات وصولاً إلى الفعل والسياسات؛ حيث انشغلت منظومة الثالث من يوليو بالمواطن “العسكري” فقط دون المواطن العادي “المدني” حتى ولو كان دبلوماسياً، ومع ذلك فقد كان التعامل المصري مخزياً ودون التوقعات المنخفضة أساساً.
فقد استقبل قائد منظومة الثالث من يوليو خبر أسر الجنود المصريين من قبل قوات الدعم السريع في السودان بعدم اهتمام ولا مبالاة واضحة للعيان؛ حيث استمر في ممارسة عمله الروتيني من مقابلة المسؤولين عن المشروعات، ولم يصدر عنه أي تصريح بشأن الأزمة إلا مساء اليوم التالي عقب حضوره اجتماع المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وقد اتسم خطابه بعدم الاهتمام وأشار إلى جنود الجيش بلفظ “عناصر” القوات المصرية، ولم تنتفخ أوداج المتحدث العسكري إلا عندما أذاع الجيش السوداني أن مساعد الملحق العسكري قد قتل في الاشتباكات في السودان، فقد سارعت منظومة الانقلاب جميعا بعسكرها وحكومتها وإعلامها لنفي ذلك جملةً وتفصيلاً، والتأكيد على أن من قتل هو مساعد الملحق الإداري وليس العسكري.
منظومة العسكر ومنتسبيها وخاصة قائد نظام الثالث من يوليو، لم تعد تدرك مفاهيم الأمن القومي التي تؤسس لمنظومة عسكرية تقوم على حماية الحدود والوجود، وكذا لم تعد تهتم بجوهر الأمن الإنساني المتعلق بالمواطن العادي، فافتقدت المواطنة جوهرها
هكذا يكون التمييز بين المسلكين السابق الإشارة إليهما في شواهدهما ومشاهدهما، والتي يتضح فيها كيف أن هذه العنصرية المعسكرة تتناقض مع الأمن القومي ومع الأمن الإنساني. فهذا النظام لا يُولي أي اهتمام لمفهوم الأمن بشموله، وكل ما يشغله هو أمنه الخاص والضيق، والحفاظ على منظومته وحمايتها، على حساب الوطن والمواطنين في معاشهم ومستقبلهم، ولا يرى ولا يبصر إلا ذلك المواطن “العسكري” الذي يضمن له كل الحقوق وتتضاعف هذه الحقوق إذا ما كان هذا المواطن العسكري ذو رتبة كبيرة ويعمل في إطار الحلقة الضيقة حول قائد المنظومة، أما إذا ما كان هذا الشخص -لا قدر الله- “مدني” حتى وإن كان يعمل معه ويلتصق به فهو في المرتبة الأدنى، أما ذلك المواطن “المدني” العادي فهو لا يحوز على اعتراف أو اهتمام هذه المنظومة.
فالمواطنة في عرف العسكر إنما تشكل في هذا الإطار رؤية تتسم بحالة من العنصرية العسكرية والفاشية المعسكرة، لتؤكد المرة تلو المرة كيف أن هؤلاء إذا ما فشلوا في حماية العسكر قاموا على تحصينهم من خلال أدوات تشريعية وقانونية تؤكد على تمييز تلك الفئة داخل المجتمع، حتى لو قامت بأعمال مدنية، فهي لا تحاسب أمام القضاء المدني، وفي الغالب تكون المحاكمة شكلية خاصة إذا ما كان من المرضي عنهم، أو ممن يخصهم، ويقع في دائرة المنتفعين منهم.
إن منظومة العسكر ومنتسبيها وخاصة قائد نظام الثالث من يوليو، لم تعد تدرك مفاهيم الأمن القومي التي تؤسس لمنظومة عسكرية تقوم على حماية الحدود والوجود، وكذا لم تعد تهتم بجوهر الأمن الإنساني المتعلق بالمواطن العادي، فافتقدت المواطنة جوهرها سواء بعسكرتها أو بطغيان أفعالها المعسكرة على مساحات المدني واغتصابها.