نشر المقال في “عربي21” بتاريخ: 9 مايو 2023

مثّل سلوك “معتز” في الإعلام -أو بتعبير أدق- “الإعلان” الذي يقدمه على قنوات النظام المستبد وداعميه نموذجاً على القابلية للاختطاف؛ فبعد أن كان أكاديمياً وباحثاً انضم إلى جوقة الإعلان والترويج للمستبد، عامداً إلى الاستفادة من نصوص “لا يفقهها” ولا “يتعرّف” على أسباب ورودها، ولا جهة تطبيقها وتنزيلها، فهو المبرر للاستبداد، والمسوّغ للطغيان، الخانع له، المسبّح بحمده، الذي انخرط في أعضاء هيئة التدليس، فبات هذا عنواناً للقابلية للاختطاف، في ظل قبوله بالترويج وطلب الحماية والدعم والمساندة لعسكري فاشي المسلك، ديكتاتوري المنشأ، طغياني المصب.. هكذا قرر المذيع الإعلاني حالياً الأكاديمي سابقاً أن يحترف النفاق والمداهنة، وأن يجعلها ديدنه، بمطالبته بالتمسك بالمستبدين وحمايتهم، وعلى حد تعبيره المقتطف والمختطف “حتى لو ضرب ظهرك، وأخذ مالك”.

لا أنكر انزعاجي من طول زمن سقوطه الحر حتى الآن، خاصة وأن الواضح من الأمر أن قاعه ما زال عميقاً، إلا أنني في الوقت نفسه لا أرى مفاجأة كبيرة فيما وصل إليه، فعلى الرغم من أنه قبل 2013م كان منافحاً عن الديمقراطية في مقالاته وكتبه، من مثل دراسته عن الإسلام والديمقراطية والعديد من الدراسات والمقالات، ومنها ما نشره تحت عنوان “فن صناعة الاستبداد” في صحيفة الشروق المصرية الصادرة بتاريخ 5 شباط/ فبراير 2011م: وأول ما نتعلمه هو ألا نصنع “مبارك” آخر.. ولا بد أن تختفي ثقافة “عشق الزعيم” وفكرة “صمام الأمان”، بل هو القائل “ليس مع الاستبداد عذر. وليس بعد الاستبداد جريمة”.

صاحب هذا الكلام الكبير هو من سارع منذ أن لمح طيف مؤسس نظام الثالث من يوليو، بإلقاء نفسه تحت سنابك خيله، فعقب مسرحية الانتخابات الرئاسية التي جرت عام 2014م تحدث “معتز” بتاريخ 12 حزيران/ يونيو 2014م في برنامج “باختصار” الذي كان يقدمه على قناة المحور ليقول “إن المنطقة العربية بحاجة لديكتاتور.. “مينفعش تحكمنا النظم الديمقراطية والمساواة”، ومنذ ذلك اليوم لم يتوقف عن الحديث بهذه النغمة، والترويج لنظام الثالث من يوليو، واتهام الشعب بعدم الجاهزية للديمقراطية.

لم يكتف “معتز” بالمطالبة بحماية المستبدين والقبول بسلبهم أرواحنا وأموالنا، بل قدم تبريرا آخر يتمثل في القبول بـ”المستبد العادل”، وأخذ يلوك فيما قاله الإمام محمد عبده “إنما ينهض بالشرق مستبد عادل”؛ وهنا أيضا نجده يمارس ما يمكن وصفه بالتزوير البحثي والتدليس على مناهج البحث التي كان يدرسها، فقد توقف عند هذه العبارة والتقطها مهللا بها لينال رضا الطاغية.

وقد سبق لي أن ناقشتُ هذه المقولة، وبيّنت أن هذا التركيب الذي يتعلق بالمستبد العادل بالتسمية، وكذلك تلك الصفة، يعاني من الالتباس الكبير، تمثّل ذلك في أمرين مهمين: الأول، التباس المفهوم على مستوى اللغة، لأنه أحيانا يفسَّر الاستبداد دلالة على الظلم، وأحيانا أخرى يُحمل دلالة على الحزم. فالاستبداد هو الفعل الظالم الذي يقوم به المستبد منفرداً متفرّداً وفق هواه، فهو حُكمٌ بالهوى، كما يقول الكواكبي في “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”.

والثاني، تعلق بفجوة الممارسة وتأويلها على نحوٍ يمرّر هذه المقولة، بعد بروز خطابٍ يخلع على بعض الخلفاء الراشدين صفة المستبدّ العادل هذه، ومن ثم لا يمكن التسليم لهؤلاء أن يكيّفوا تلك الفترة وتلك القيادات أنها كانت تتمتّع بقدرٍ من الاستبداد والعدل معا، إضافة إلى أن من مستويات الممارسة ما يتعلق بغطاء الاستبداد بدعوى الإصلاح، فهو لا يصف نفسه بالظلم، ولكنه دائما ما يستخدم في خطاباته أن الهدف هو القيام بعملية إصلاح كبرى..

مثل هذا الخطاب يُستخدم للتغطية على أمور وسياسات ظالمة، فللانتقال أصول وسياسات وأطر لا تبرّر الظلم. وشأن الحزم غير الاستبداد، إنه مواجهة كل فساد بحق، أما الاستبداد فهو محاولة التدثر بخطاب إصلاحي لحماية الفساد وليس لمواجهته

هكذا كان فرعون مدعيا الرشاد والإصلاح، وكذلك ما يتمثل في القبول بمستبدٍّ عادل لفترة انتقالية بسيطة، حتى تتسنّى له إقامة أواصر الدولة وتثبيت أعمدتها، ولكن ذلك كله من أسس تسويغ هذه الفكرة المرفوضة وترويجها، إذ يوظّف المستبد مسألة المرحلة الانتقالية لتكون مستمرّة ودائمة، وهي في حقيقة الأمر نوع من أنواع الخطاب المبطن لتسويق الاستبداد وحمايته. مثل هذا الخطاب يُستخدم للتغطية على أمور وسياسات ظالمة، فللانتقال أصول وسياسات وأطر لا تبرّر الظلم. وشأن الحزم غير الاستبداد، إنه مواجهة كل فساد بحق، أما الاستبداد فهو محاولة التدثر بخطاب إصلاحي لحماية الفساد وليس لمواجهته.

تجاهل “معتز” كل ذلك ليس عن جهل -على الأقل وفق ما كان عليه في السابق- ولكن تحقيقاً لمصالح وهوى نفس، فهو الذي يتمنى أن يستمر مؤسس نظام الثالث من يوليو حتى عام 2030م حتى لا ينقطع عن الشاشات، ويتقلب بينها كما يفعل الآن. وهنا ليس لنا إلا أن نذكّره إن كان من أهل الذكرى؛ بما كتب في رسالته للدكتوراه المنشورة والتي أحدث فيها قدراً من التبشير بالديمقراطية لا مثيل له، وقد طرح فيها أسئلة مهمة من مثل: “هل قيم وتوجهات المسلمين تمثل عائقاً في سبيل عملية التحول الديمقراطي في الدول ذات الأغلبية المسلمة؟ وإذا كانت الإجابة بنعم، فلأي مدى ترتبط النظرة السلبية للديمقراطية بالإسلام كدين يعتنقه ويمارس شعائره المسلمون؟ وإذا كانت الإجابة بلا فما هي العوامل الأخرى التي تقف حجر عثرة في مواجهة تحول ديموقراطي حقيقي وأصيل في العالم الإسلامي؟”.

وقسم “معتز” في دراسته الأكاديمية المجتمعات المبحوثة إلى أربعة أنواع من الثقافة السياسية، توصف (1) رافضة للحكم الديمقراطي، (2) تأييد ضعيف للديمقراطية، (3) قبول واسع للديمقراطية، (4) اقتناع تام بالقيم الديمقراطية. وتصنيف كل مجتمع مبني على قياس مركب يدمج خمسة مؤشرات: (1) تأييد المبادئ الديمقراطية، (2) تأييد المؤسسات الديمقراطية، (3) القابلية للتحول الديمقراطي، (4) مرونة الطلب على الديمقراطية (أي الاستعداد لدفع ثمنها من خلال المشاركة الفعالة فيها والمطالبة العلنية بها، (5) النظام السياسي المثالي (أي لأي مدى يرى هؤلاء أن النظام الأمثل لهم هو نظام ديمقراطي بحكم بنيته ومؤسساته).

وقد جاءت مصر في العمود الخامس “قبول واسع للديمقراطية”، وقد فسر “معتز” الجدول بأن مصر من بين “ثلاث عشرة دولة قبلت بوضوح المبادئ والإجراءات الديمقراطية، ولكنها لا تراها الأولوية العليا (العمودان الرابع والخامس)، مؤكدا أن الأغلب أن هذه الدول من الممكن أن تتقدم نحو ديمقراطية حقيقية فقط إذا بادرت النخب الحاكمة بالتحول. لكن الملاحظ عملياً أن هذه النخب لا تقدم على إجراءات التغيير السياسي من باب التحول الديمقراطي الحقيقي، وإنما هي أدوات لتهدئة غضب العامة أو للتنصل من تغييرات ديمقراطية حقيقية. وإذا لم تبادر النخب الحاكمة بالتحول الديمقراطي، فإنها لن تجد ما يدفعها نحو التحول الديمقراطي؛ لأن الضغوط الشعبية ضعيفة وفئوية وتتجه نحو مطالب اقتصادية واجتماعية وليست سياسية، كما يشير في دراسته المنشورة في مركز الجزيرة للدراسات في آب/ أغسطس 2011م، والتي تحدث فيها عن سيناريوهات التحول الديمقراطي في مصر.

قدم الصحفي المرحوم “جمال خاشقجي” في إحدى مقالاته إجابة عن سؤالنا هذا قائلاً: “حتى معتز تغيّر.. وانهار لاحقاً، وتخلى عن كل القيم التي كان يؤمن بها وأضحى يبرر للانقلاب. ليس وحده، فكثيرون مثله ممن آمنوا بالربيع العربي تخلوا عنه عندما رأوا حكوماتهم تسفر عن وجهها الحقيقي الرافض له، رأوا أين الريح ماضية فآثروا السلامة والكسب ومضوا خلفها، حتى الصمت لم يستطيعوا”

وقد أشار إلى أن “الساحة المصرية يغيب عنها كذلك المثقف العضوي القادر على قيادة الجماهير نحو ترجمة مطالبهم الفئوية إلى مطالب تغيير سياسي حقيقي”، فماذا يعتبر “معتز” نفسه؟ هل هو في زمرة المثقف العضوي، أم في زمرة خيانة المثقفين؟ هل باتت مناصرته للاستبداد والمستبد هي جل همّه واهتمامه، وبات في حقيقة الأمر من دكاترة المستبد، يُسوّغ لوجوده، ويُطالب بحمايته؟ أي نوع من المثقفين هو إذا؟!

وقد قدم الصحفي المرحوم “جمال خاشقجي” في إحدى مقالاته إجابة عن سؤالنا هذا قائلاً: “حتى معتز تغيّر.. وانهار لاحقاً، وتخلى عن كل القيم التي كان يؤمن بها وأضحى يبرر للانقلاب. ليس وحده، فكثيرون مثله ممن آمنوا بالربيع العربي تخلوا عنه عندما رأوا حكوماتهم تسفر عن وجهها الحقيقي الرافض له، رأوا أين الريح ماضية فآثروا السلامة والكسب ومضوا خلفها، حتى الصمت لم يستطيعوا”.

هذا المثقف الفاضح والأكاديمي المفضوح، فضح مستبده حينما وصفه بذلك، وفضح نفسه حينما رضي بذلك، بل وسوّغه وطالب الآخرين بأن يستمسكوا به، ويعضوا عليه بالنواجذ.

هنيئاً لك يا “معتز “بالمستبد، وإن أخذ مالك، وجلد ظهرك، إنه نموذج لهؤلاء المطلوبين في جمهورية السيسي الجديدة المزعومة، فالطاغية لا يزال يطلب مزيدا منهم في حواره المزعوم وبعضهم تطوع أو يشتاق للقيام بهذا الدور “دكاترة المستبد”، و”أعضاء هيئة التدليس”، الذين كانوا ظهيرا للمجرمين.