نشر المقال في جريدة الشروق المصرية بتاريخ: 18 مايو 2013
فى إطار الصفحة الجديدة فى كتاب العلاقات المدنية العسكرية ومحاولة ضبط إيقاعها فيما يتعلق بالعلاقة بين المدنى والعسكرى والسياسى فإن ضبط هذه العلاقات يحتاج منا إلى خطاب رصين وإلى عمل مكين، ذلك أننا نتحدث عن هذا الجيش المصرى العظيم الذى شكل أحد أهم قسمات مشروع الدولة الوطنى على عهد محمد على باشا، أنت تتحدث هنا عن مؤسسة لها ذاكرة حضارية ممتدة تسكن تاريخ مصر الحديث والقديم، ليس هذا من فائض الكلام ولكنه بيان وإعلام، نقدم فيه رؤية غاية فى الأهمية لقراءة خطاب محدد ومفاتيح كلمات بعينها تقدم الرؤية الواضحة والمواقف القاطعة بكلمات صريحة غير ملتبسة تترجم أهداف ثورة يناير العظيمة، نشير فى هذا المقام إلى ما أكد عليه الفريق أول عبد الفتاح السيسى، وميزة هذا الخطاب أنه صدر بشكل مقصود ولعموم جماهير الوطن، أراد أن يؤكد نيابة عن جيش مصر وممثلا لمؤسسة القوات المسلحة، أن على الجميع أن يعرف أن هناك حراكا كبيرا يتم فى هذا البلد لابد أن يشارك فيه الجميع كشعب وليس كجيش، هذه العبارة الافتتاحية إنما تعبر عن معانٍ قاطعة لا تحتمل القيل والقال ولا تحمل عناصر أى جدال يؤصل معنى الحراك الكبير فى المرحلة الانتقالية الذى قد يلتبس على كثير من الناس ما يحدث فيه أو يعتمل فى ساحته وهو يؤكد أيضا مشاركة الجميع كشعب متنوع فى إطار شراكة جمعية وبشكل قاطع مانع حينما يؤكد كشعب وليس كجيش.
فى الصفحة الجديدة يعرف الفريق أول دور مؤسسة الجيش ووظائفها ويعرف أن هذا الحراك الشعبى إنما يشكل عملا من طبائع السياسة وتفاعلاتها وأن الجيش معنى بأن تتم هذه الشراكة ولكنه ليس جزءا من ميدان السياسة أو مساحاتها.
وفى قَسمة ثانية من هذا الخطاب يشير إلى أن هناك من يتحدث دون أن يعرف معنى نزول الجيش إلى الشارع، وهذا أمر فى غاية الخطورة كما شدد وأشار هذه العبارة المرجعية إنما تؤكد على معانى تلك الصفحة الجديدة فى صياغة العلاقات المدنية العسكرية وضبط إيقاعها وإعمال لوازمها وبلوغ مقاصدها، الجيش مكانه الثكنات وليس الشارع، نزول الجيش للشارع أمر فى غاية الخطورة لأن هؤلاء الذين ينادون من كل طريق إلى استدعاء الجيش للنزول لا يعرفون على حد قول السيسى معنى نزول الشارع هذا الخط الفاصل بين الشارع والثكنات يؤكد فهم دقيق وعميق لطبيعة الوظائف وإسناد الادوار وتمايز المدنى والعسكرى بما يحقق علاقة سوية ورصينة بين السياسى والعسكرى.
وفى عبارة مفتاحية ثالثة أوضح السيسى أن الجيش المصرى حريص على كيان الدولة وسيظل يقوم بدور تنموى من خلال مشروعات وطرق ومحطات مياه من أجل المواطن المصرى وأن المصريين مطالبون بالاتحاد والتفاهم والتوافق على آليات العمل، ثم أثبت فى جملة اعتراضية ــ «أنا هنا لا أسوّق لأحد ولكن أحاول جاهدا أن أخدم بلدى» ــ الجيش المصرى قوة لا تستخدم إلا لحماية الشعب والوطن ولا أحد يجابه الشعب ومن يفعل ذلك يهدم بلده ونحن نعى ذلك جيدا، كلمات متتابعة غاية فى الأهمية تعبر عن علاقة الجيش بكيان الدولة وكذلك عن علاقة الجيش بخدمة الشعب، إن هذا الأمر إنما يحدد خطوطا قاطعة وفاصلة فى إطار هذه المساحات ويحدد مناطق التشارك وأصول التفاعل وحدود الحركة ونطاقها، وفى هذا المقام فإنه يحيل إلى مطالبة تؤدى إلى كل مسارات الاتحاد والتفاهم والتوافق كآليات للعمل مشيرا إلى مواجهة مضادات آليات الجامعية من فرقة وتنافى واستقطاب وفى عبارة أساسية خاتمة شدد على أن استدعاء الجيش للحياة السياسية مرة أخرى أمر فى غاية الخطورة، وقد يحول مصر إلى أفغانستان أو الصومال.
إن الأمور لا ترتجى لذاتها ولكن تبتغى لمقاصدها والتحسب لمآلاتها وآثارها هذا الفهم العميق والدقيق لخطورة استدعاء الجيش للحياة السياسية مرة أخرى وامتناع هذا الأمر لهو من الأهداف الأساسية التى صاغتها الثورة المباركة فى تدشين أولى الصفحات الثورية فى كتاب العلاقات المدنية العسكرية.
بين فاتحة مهمة وخاتمة متمة سد السيسى طريقا ومسارا وفتح فى المقابل أسلوبا واختيارا حينما أكد موجها كلامه لكل المصريين «أنتم مش قادرين تقفوا أمام الصندوق الانتخابى عشر ساعات أو خمس عشرة ساعة حتى تحققوا ما تريدونه من تغيير بدلا من التضحية بجيشكم ورجال قواتكم المسلحة التى لن يستطيع أحد أن يورطها إن شاء الله» عبارة بليغة المعانى والمغازى تقدم رؤية تأسيسية لخيارين: الأول ممنوع مرفوع وهو استدعاء الجيش إلى الشارع، والثانى متاح ومباح تمثله القاعدة الذهبية أن التغيرات الجذرية بعد الثورة المصرية يمكن أن تحدث بتفعيل المسارات الانتخابية.
فى هذا الإطار تبدو لى تلك الخطابات التى تسعى بتلبيس إبليس لتزيين القبيح وتقبيح الصحيح شىء لم يعد يطاق فى خطاب قوى استأثرت بوصف المدنية وهى بمطالباتها المتكررة والمتراكمة استدعاء واستعداء للجيش مما يصلح لأن يكون مسوغا لشطبها من سجلات «المدنية» ومن ملفات «الخبرة الليبرالية»، أين «المدنية» و«الليبرالية» فى مطالبتكم، ألا تشعرون بالخزى الكبير فى مثل هذا الاستدعاء والاستعداء لجيش يريد لنفسه أن يكون ضمن منظومة سوية لعلاقات مدنية عسكرية.
أيها «المتمدينون» و«المتلبرلون» إذا أردتم أن تواجهوا ما تسمونه تجرؤا بالحكم الدينى فردوه إلى حكم مدنى مجتمعى طريقه باليقين وبالضرورة ليس العسكرى، فلا تكونوا ممن يفترون على المدنى والمجتمعى والسياسى فهذا من حديث الإفك، ومن مشاهد التهريج السياسى والمكايدة السياسية إذا أردتم أن تذهبوا إلى مساحات ومسارات الانتخابات فليكن هذا هو الطريق، إنه الخطاب الواضح الذى لاي حتمل خلط التسييس أو مداخل التلبيس، ومن هنا فإن المداخل الحقيقية التى تتعلق بالعلاقة بين المدنى المجتمعى والسياسى الممتد والدينى الحافز والعسكرى الحامى والمؤمن إنما يشكل مصفوفة علاقات يجب أن تمكن لعلاقات سوية مكينة ورصينة تستصحب مصفوفة أخرى من مرجعية واضحة قوية تقوم على قاعدة من مبادئ النظام العام وقاعدة المواطنة الذهبية عبر الوطن والتى تشكل قاعدة مأمونة لكل عمل يمكن أن يتسم بأسس الشرعية ومكامن الاعتصام والجامعية لتمكين أصول الجماعة الوطنية وشبكة العلاقات الأساسية والمجتمعية بما يمكن لكل عناصر الدافعية لاستراتيجية إصلاح واعية والرافعية لكل عمل نهضوى والتجديدية لكل كيانات المجتمع وجملة تؤسس لمسارات الفاعلية السياسية والاستمرارية الحقيقية.
إننا بتصور العلاقات وضبطها وإعادة صياغتها وبنائها نواجه معادلات شائهة آن لها أن تذهب وتحل محلها معادلات وازنة متوازنة، إن الأقوال والأفعال التى تقوم على معادلة تشويه الدينى واختزال السياسى فى الصراع والتنافس على السلطة ومحاولة إقصاء وتغييب المدنى والمجتمعى واستدعاء واستعداء العسكرى كل هذا يهدم روح المجتمعات ولا يقيم سياسات ولا يبنى استراتيجيات.
تعالوا إذا نتحدث عن معادلة جديدة تحفظ للدين مكانه ومقامه فى إطار يشكل الدين فيه دافعية نهضوية واتساع مساحة السياسى بمعنى المعاش وإصلاح أحوال عموم الناس والحضور الفعال للمدنى والمجتمعى فى إطار من الشراكة والسياسات ومحط القرارات ووضع مقام الدور العسكرى فى الحفاظ على منظومة الأمن الإنسانى فى نصابه ومقامه.
«فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث فى الأرض».