المدرسة الاسلامية

في إحدى سنوات تدريس مساق الفكر السياسي الإسلامي، والذي كان يعلّم واحدة من أهم المهارات البحثية التي تتعلق بتحليل النصوص التراثية والنصوص عامة، وقد اقترح عليّ أستاذ قدير في النظرية السياسية آنذاك أن نتشارك في تدريس المساق، وأن يكون فيه جانب عملي يتم خلاله إسناد نصوص من “مقدّمة ابن خلدون” لتطبيق الأداة التحليلية، وقد فعلنا في العام الدراسي ذاك. وكان اقتراحاً مذهلاً، وخصوصاً أن بعضهم يتعامل مع المقدمة الخلدونية بمحفوظاتٍ منها أكثر من استقصاء نصوصها التي حملت بحقّ مشروعاً حضارياً متكاملاً، وذهب بنا إلى تأسيس علم العمران السياسي والاجتماعي والحضاري في لغة علمية رصينة، فكان المحتوى الخلدوني، فضلاً عن مهارة تحليل النصوص، عملاً مفيداً لنا بصفتنا أساتذة درّسنا، وطلاباً درسوا في فرصة ذهبية هذه المقدمة ومحتوى فصولها بالدقة اللازمة والتحليل العميق الذي حمل لنا مقدّمات تأسيسية معمّقة.

توقف طلابٌ نابهون في هذا المساق على بعض المقولات الخلدونية الأساسية، وكان هناك أمران في مقدمة الاهتمام في التحليل والتفسير؛ مقولة “أن الظلم مؤذنٌ بخراب العمران”، بما يعد ذلك من سنة ماضية تشتمل في مكنونها على قوانين للانتظام السنني. وكانت المقولة الثانية “أن المغلوب مولعٌ أبداً بتقليد الغالب في زيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده..”؛ وهي مقولة لا تزال تقدم معاني وقوانين انتظام سنني صالحة لأن تقدم زاداً مهماً في النظر إلى المسألة التراثية والسؤال المتعلق بها؛ سواء أكان من آثارها النظر التقديسي للتراث أم النظر التبخيسي له؛ وهي مواقف أشار الكاتب إلى خطورتها بشأن الموقف المنهجي القويم من التراث والخارج عن حد التبنّي المقدِّس للتراث أو التجنّي المطلق عليه. قد يعيد تحليل المقولة الخلدونية واتخاذها مدخلاً إلى التفسير بناء الموقف القويم من تراث المسلمين، ولعل هذا ما نحاوله في هذا المقال. ورغم أن لتلك المقولة تفسيرات كبرى أخرى لا تتوقف عند حد الظاهرة الاستبدادية، أشير إلى مقال سابق في “العربي الجديد” يربط بين هذه المقولة والظاهرة الاستبدادية، وتشكيل السياقات القابلة لها، وقد يطول الأمر بنا لو أردنا استقصاء تلك المقولة الخلدونية وآثارها، خصوصاً ما يتعلق بتمثلاتها في الواقع؛ وها نحن نتوقّف عندها وعلاقتها بالتراث وأسئلته.

نظرة الإكبار وتوهم الكمال في المنتصر خطأ تدفع إليه طبيعة الهزيمة وليس كمال المنتصر

يفيدنا فحص هذه المقولة وتدقيقها في الوقوف على حقيقة المسألة التراثية والموقف منها غير متوقفين فقط عند معطيات التحليل، ولكن تلمس قواعد التفسير الكامنة فيها والوقوف عليها لتحديد مكانة التراث من هذه المقولة؛ التقليد فيها عادة اجتماعية وحالة جمعية؛ والاعتماد على المدخل النفسي في تفسير أسباب السلوك الإنساني، الاعتقاد بكمال الغالب أمرٌ مستقرٌّ في ذهن المغلوب، لعدة أسبابٍ، أهمها النفس ترى الكمال في من انتصر عليها بما وقر عندها من تعظيمه، خداع الذات ومغالطة النفس لتبرير أن الانقياد لا يكمن في قصور المغلوب، وإنما هو لكمال المنتصر. بمعنى آخر إن نظرة الإكبار وتوهم الكمال في المنتصر خطأ تدفع إليه طبيعة الهزيمة وليس كمال المنتصر؛ وأخيراً يرجع السبب أيضاً (في رأي ابن خلدون)، بالقطع، إلى الظن الخاطئ أن التغلب أو التفوق إنما يرجع إلى عادات الغالب وسلوكه؛ وليس إلى تمتّعه بقدر أكبر من الشجاعة وخشونة العصبية. والمحصلة في هذه الحال أن تؤدّي هذه التخيلات والأوهام إلى تبني المهزومين (المغلوبين) عادات وأسلوب حياة من تغلَّب عليهم وأخضعهم.

ومن الواضح الجلي، خصوصاً في الأمثلة والحالات التي رصدها ابن خلدون، أنه يتفهم جوهر مفهوم السلطة واحداً من أفعال الغالب والسلطة الكامنة والظاهرة فيه؛ ومن ثم كان تصنيف الغالب والمغلوب عنده واسعاً ممتدّاً يشمل كل من له سلطة أو قوة هيمنة على الآخر؛ وأن الأمر كما يتعلق بسلطان الداخل في نماذج فرعية ذكرها، فإنه يتعلق كذلك بسلطان الغلبة الخارجية وقانون الغلبة الحضارية بين الأمم والثقافات والحضارات؛ ظهر ذلك واضحاً في الفصل الذي أعقبه “في أن الأمة إذا غُلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء”؛ “والسبب في ذلك والله أعلم ما يحصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها عليها وصارت بالاستعباد آلة لسواها وعالة عليهم فيقصر الأمل ويضعف التناسل والاعتمار ..”.

وهنا نصل إلى بيت القصيد والمقصود في رؤيتنا لمقولة “المغلوب”؛ فالأمر هنا يتعلق بمفهوم “الولع”؛ ذلك المفهوم الذي عبر عن حالة نفسية فردية كانت أم جمعية ليتحول من حالة نفسية إلى حالة ثقافية وحضارية؛ مروراً بحالات وتحولات أخرى معرفية تبعية، وإدراكية في الفهوم والتصورات، ذهنية وعقلية، سلوكية واجتماعية، وقيمية مادية كانت أم معنوية؛ ومن المؤسف أن يتحول كل ذلك إلى مرجعية كلية؛ هذا المفهوم لا يقف بحال عند الحالة النفسية الأولى، ولكنه يتطور ضمن صناعة وقابلية، صناعة الولع من عمليات وآليات، ووسائل وأدوات، وسياسات وعلاقات، وأشكال ومجالات، ومواقف واتجاهات، وآثار ومتحصلات ومآلات. ولم يكن هذا كله يؤتي أثره المحكم لولا القابليات الداخلية؛ فالخارج والغالب لا يتمكنان من الداخل أو المغلوب إلا إذا مكّن لهما الداخل والمغلوب؛ ذلك أن قابليات الولع تنتظم لتحكم حلقة السيطرة والهيمنة في العلاقة بين الغالب والمغلوب.

ضمن المسألة التراثية، يبدو هنا أن إعمال المقولة الخلدونية والنظر بها تحليلاً وتقديمها إطاراً وتفسيراً يجعلنا نعيد النظر بالمسألة التراثية وسؤال التراث

نأتي إذاً إلى موقع المسألة التراثية من المقولة الخلدونية. … ترتبط الفكرة هنا بهؤلاء المقدّسين للتراث الواقفين على بابه، إنه سلطان الماضي الذهبي، والسلطة الأبائية التي نعى عليها القرآن، وكذلك المدخل السلطوي القائم على فكرة طاعة الكبراء والسادات، والشاكلة الزمنية وسطوة الواقع وإملاءاته، والاحتماء بالماضي، والهروب إليه، وضغوط الماضي والواقع والمستقبل، وسلطة المصدر، والخلط المتعمّد بين الأصل المرجعي والتراث الاجتهادي، واحتكار سلطان التأويل، وحراس البوابات التراثية، إنها عناوين مختلفة من سلاطين الفكرة فصنعناها بأنفسنا، وهو أمرٌ وجد وسطاً مصطنعاً من النكوص التاريخي، ومقولة افترضت توقفاً اجتهادياً “ما ترك الأول للآخر شيئاً”، وفرية إغلاق باب الاجتهاد، وهو ما اجتمع في ميراث التقديس وعقليته.

وفي المقابل، ترى هؤلاء الذين وقعوا في نفي هذا التراث أو التعامل معه بغير ما تقتضيه اللياقة والملاءمة المنهجية في هذا المقام من التشبه بالغرب، والتشبع بحالةٍ من الدونيّة الحضارية، وجحر الضب الحضاري، والدخول في أوعية التنميط الحضاري وأحكام سلطان الحداثة وما بعدها والعولمة وسلطانها ونهاية التاريخ وصدام الحضارات والاستتباع والإلحاق في ظل عقلية اللحاق بالركب الحضاري وهندسة الخضوع والإذعان وسلطان الإعلان والترويج ونسخ وفسخ ومسخ التراث، ووصول البعض إلى موقف التراث العبء والقطيعة التراثية، إنها حالة توقع التراث من مقام الخصومة والاتهام والعداوة بل والعدوان عليه. ويبدو الأمر منطلقاً من فكرة مشروعية النظر والتناول التراثي من باب مشروعية الذاكرة الحضارية، ومشروعية الدراسة المنهجية، ومشروعية النقد والمراجعة والمساءلة التراثية ومشروعية التوظيف والتقديم الذاتي ومشروعية الفاعلية التراثية، ومشروعية الإحياء له والتجديد في قراءته.

مشروعية الخروج من حال المغلوب والولع هي من المداخل الأساسية في هذا المقام، وهي تقوم على منظومةٍ من المواقف والعمليات، مشروعية الخروج من حال التبعية وإملاءات الواقع الحضاري من الغالب، مشروعيّة الخروج من التحيز الغافل إلى الماضي أو الناقل من الغرب وعنه، مشروعية الجرأة المنهجية في نقد الغالب وأفكاره، مشروعية الخروج من الولع الحضاري بالتراث تقديساً، وبالحداثة ترويجاً، مشروعية الخروج من مقتضيات الحالة الاستبدادية، والتي تمكن لحال الغالب والعمل في ركابه، مشروعية حال الخصوصية الثقافية والوعي بأصول التعارف الحضاري. وأخيراً، مشروعية الخروج من المغلوبية استنهاضاً واستشرافاً والشروع في النهوض. ضمن المسألة التراثية، يبدو هنا أن إعمال المقولة الخلدونية والنظر بها تحليلاً وتقديمها إطاراً وتفسيراً يجعلنا نعيد النظر بالمسألة التراثية وسؤال التراث. … عود على بدء، مشروعية سؤال التراث بين الغالب والمغلوب.