في سياق الخبرة التدريسية المتراكمة التي أنتجت وعاءً مناسباً لتحليل النصوص التراثية، ضمن مسار القراءات الإيجابية للتراث، برز ما سمّاه كاتب هذا المقال “إحسان القراءة”، وفي هذا المقال يحاول عرض هذه الطريقة بشكلها المتكامل، وجوهر هذه الطريقة في تحليل النصوص.
ليس من هدف ذلك الأسلوب في التحليل أن نقرأ النصوص قراءةً شارحةً أو مفصّلةً أو أقرب ما تكون إلى القراءة التتبعية الوصفية للنصّ، على جلالة قدرها، وصحّة مدخلها وضرورات القيام بها. وعليه، فإنه يعتبر مرحلةً تاليةً لما سنقوم به وعليه من شرح المنهج وأدوات الاقتراب وآليات التعامل المحدّدة (لمناهج النظر والتعامل والتناول) مع هذه النصوص، وعلى اعتبار هذه الخطوة من المتطلّبات السابقة، ويدخل ذلك ضمن اهتمامنا بعلم النظرية السياسية والفكر السياسي، وبمقدار ما بينهما من تقاطع، وما لكلّ منهما من فرادة.
إشكالية يفرضها علينا منهج القراءة المقارنة، التي نعتبرها من أهم أنماط القراءة المفتوحة أو إحسان القراءة، التي تعطي عناصر ضبط منهجي وتنوّع تحليلي في آن واحد.
وغاية الأمر من هذا السياق أن نتحرّك صوب هذه القراءة التي تستنبط ذلك كلّه ضمن سياقات التفكير بأطر النظرية وتكوينات الفكر وضرورات المنهج. إننا بذلك نجد الموضوع مناسبةً، والنصوص ميداناً للتفاعل معها بقراءة (أو إن شئت الدقّة بمشروع قراءة)، نحاول أن نجمع فيه (ونستدعى) كلّ ما يرد على الفكر والتفكير من آليات المنهج في النظر والتناول والتعامل. وربّما نشير في ذلك إلى تعقيد قضية المنهج، وتركيب عملية القراءة، وتنوّع عناصر الآليات والأدوات التي تحقّق فهماً أعمقَ، واستنباطاً أدقَّ، وعملاً أكثر تنظيماً، فتحرّك عناصر الضبط كما تحرّك عناصر القراءة الذاتية، من دون أن يتخالفا أو يتصادما، بل طريقةً جامعةً لكلّ معاني القراءة المفتوحة الحاوية لعناصر الضبط والتنوّع الذاتي والاجتهاد القرائي في التعامل مع النصوص، ومع اعتبارنا ذلك كلّه يقع ضمن حدّ “إحسان القراءة”.
لا تمنع هذه الطريقة الجامعة بالتفاعل والتكامل والجدل إدخال عناصر وآليات يمكن أن تسهم في “إحسان القراءة” أو تحقيق أصول “القراءة العالمة”، ومن هنا فقد استخدمنا جملة من الآليات المحقّقة لهذه الأصول؛ فهناك منهج النظر، تحدّده عناصر القراءة الجامعة التي تنظر إلى التراث باعتباره الذاكرة التاريخية للأمّة، بما تحمله من عناصر مختلفة، بعضها سلبي وبعضها إيجابي؛ ومنهج التناول الذي تحدّده عناصر القراءة الفاعلة، لأنه يحدّد المقصد من النظر والتناول ضمن عملية الإحياء التراثي التي لا تقف عند حدّ النصوص وشرحها، بل تتعدّى ذلك إلى تفعيلها؛ وأما منهج التعامل فتحدّده عناصر القراءة العالمة التي تتحرّك صوب النصّ، هي قراءة فيه وبالبيئة المحيطة به، قراءة تتعامل مع النصّ ومستوياته ومفاتيحه ومرجعياته وذاكرته، ولكلّ مقام نمط من أنماط التعامل التي تدور ضمن سياقات ردّ الاعتبار لقضايا المنهج، التي تجعلنا أكثر فهماً للنصّ ومكوّناته وإمكاناته.
تحرّك الدراسة وفقاً لهذه العناصر المختلفة، وتقاطعها وتفاعلها، أصول البحث في السياقات المختلفة، والسياق هنا مفهوم متّسع ممتدّ، منه ما يتعلّق بالمؤلّف وسياقاته النفسية والسيكولوجية، ومنها ما يتعلّق بالنصّ وتتابعاته ومكوّناته (مقدّماته وتركيباته ومنهجه، وعباراته)، أي بمعنى السياقات الداخلية للنصّ، ومنها كذلك ما يتعلّق ببيئة النصّ الخارجية والوسط التاريخي الذي يتحرّك فيه (من زمان ومكان وبشر وأحوال)، وهو كذلك يتحرّك ضمن سياقاتٍ أخرى متقاطعة، الأطر المرجعية هنا لا بدّ أن تترك آثارها (عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأحداث وعالم الأشياء)، فهو يتحرّك ضمن أطر فكرية عامة، وواقع يتسم بسمات كلّية، فضلاً عن الجماعة العلمية التي ينتمى إليها وعلاقته بها. إن تدقيق النظر يجعلنا نلحظ ذلك التداخل بين هذه التصنيفات، إلا أنها ضرورية وفق الآليات المختلفة للتعامل مع مختلف النصوص التراثية.
“إحسان القراءة” ليس مجرّد شرح للنصوص، بل مشروع للتفاعل معها عبر آليات المنهج والفكر السياسي
أمّا آلية الجمع بين الآليات المتعلّقة بخلاصة شبكة العلاقات التفسيرية، فالآليات جميعاً وتسكينها، كما يتراءى لقارئ النصوص، إنما يتحرّك صوب توظيف هذه الآليات جميعاً (لتأصيل مناهج النظر والتناول والتعامل)، ويُفعّل هذه الآليات ويشغلّها ضمن الجمع بين مستويات القراءة المختلفة، إنها آليات قد تفرضها هذه النصوص أو غيرها، وقد تضيف إليها الممارسة والخبرات البحثية في إطار هذه الدراسة أو غيرها من دراسات.
وضمن ما تحدّثنا عنه آنفاً، نستطيع الجمع بين هذه المكوّنات التي تفرض جملة الآليات ضمن تعدّد مستويات القراءة، وضمن ما يسمّى بنسق “القراءة المفتوحة” التي تقع ضمن حدّ “إحسان القراءة”، وذلك ضمن قراءات ثلاث: القراءة العالمة، والقراءة الجامعة، والقراءة الفاعلة. وعلينا أن نتوقّف لتبصّر وحدات التحليل والجمع بينها. وفي إطار الجمع بين القراءات، يبدو لنا أن هذا الجمع يمكن أن يتم على مستوى منهجي أو موضوعي أو حكمي موقفي ضمن عملية التقويم، وخير من ذلك الجمع بين تلك المستويات جميعاً، ومن أهم أصول الجمع ضمن اهتمامنا بالنصوص في موضوع ما، ووفقاً لذلك وفي هذا السياق، فإن هذا البحث يجمع في وحدات التحليل بين عدة مستويات. فهناك أولاً الفكرة وحدة التحليل، التي اقتضت بدورها تجميع جملة من النصوص حول الفكرة موضع الدراسة والبحث والتحليل (مثلاً الاتصال بالسلاطين)، والفكرة في ذاتها والتجميع حولها استدعت بالضرورة التعامل مع سياقات المنهاجية المقارنة بين النصوص وأفكارها وكتابها وعناصرها وأحكامها وتبنياتها وتركيباتها، وخريطتها الأساسية وطبوغرافية تلك النصوص، ومنظومة المفاهيم المفتاحية، والمفاهيم التابعة والمشتقة، ومنظومة المفاهيم المستدعاة. وهناك ثانياً النص وحدة التحليل، وهو ما اقتضى ضرورة التعلّق بالنصوص أساساً، ليس بمعنى إثبات التقولات، ولكن الإحالة إلى تلك النصوص وفق قراءة مفتوحة للنصّ تجمع بين المستويات الثلاثة: قراءة التأسيس، القائمة والمستندة والمؤسّسة على جملة من القواعد الكلية التي تفرض نفسها عند قراءة النصوص التراثية، أو أيّ نصّ على العموم؛ وقراءة العموم والخصوص، وهي القراءة التي تحاول تسكين النصّ ضمن مجال أو اتجاه فكري بعينه فتحدّد عناصر العموم، ولكن في مجال مخصوص، وهو ما يفرض جملة من القواعد الكلية المخصوصة؛ وقراءة الخصوص (القراءة الذاتية للنصّ)، وهي قراءة يستدعيها النصّ والقارئ وفق بنيات النصّ الأساسية، ومداخل القراءة المقترحة والقراءة المعاصرة للنصّ لربطه بجملة القضايا المعاصرة في إطار نقل النص إلى لغة المعاصرة، أو لغة وسيطة تُفهم في سياقات العصر.
النصّ والفكرة والمفكّر، وحدات تحليلية متكاملة لفهم التراث واستدعائه في سياقات العصر
والجمع بين المستويين من وحدات التحليل يحّرك عناصر متعدّدة صوب القراءات المختلفة ويجدّد النظر إلى هذه النصوص وإمكان الجمع بينها. والحديث عن الجمع بين المستويين يفرض بدوره النظر إلى البحث عن المعايير التي أدّت بالباحث إلى اختيار هذه النصوص دون غيرها، وذلك وفقاً للأهداف العامّة التي يتوخّاها “القارئ” من التعامل مع النصّ، وغيره من نصوص في سياقات مقارنة.
ونضيف إلى ذلك، بقدر أقلّ، مستوىً ثالثاً: المفكّر وحدة تحليل، فلدينا أكثر من مفكّر ضمن سياق هذا البحث، فكيف يمكن التطرّق إلى هذا المستوى الثالث إضافةً إلى المستويين السابقين (الفكرة – النص)، والمفكّر وحدة تحليل يتضمّن رؤية النصّ موضع الدراسة في ضوء نصوص الكاتب الأخرى، وذلك في ضوء جملة من المستويات. الأول، رؤية أفكار المفكّر ضمن منظومة ونظامه الفكري (التطوّر-التطوير- التعديل- التغيير- التحوّل). الثاني، البحث عن مستندات فكره في النصّ ضمن نصوص أخرى. الثالث، استنباط المسكوت عنه في نصّه في سياق البحث عنه ضمن نصوص أخرى (وهي واحدة من القرائن المهمة ضمن هذا السياق). الرابع البحث عن أصول منهاجية في التعامل في كتابات قد تتعلّق بمنهجه ومسيرته ورؤية أفكاره وأفكار غيره (الموقف من الاجتهاد). الخامس، رؤية نصّ المفكّر في سياق نظامه الفكري وسياق خبرته الحياتية وتطوّرات رؤيته وممارساته، ونظراته للعصر الذي يعيش فيه. السادس، إمكانية توظيف ذلك ضمن أصول القراءة الفاعلة، هذه القراءة تمكنّنا من استنباط جملة من النماذج في عملية الاتصال التي تتداخل مستوياتها وتتعقّد ظروفها وتختلف توجهاتها، ضمن أطر التنظير وعلاقته بالتطبيق، أو علاقة الفكر بالحركة.
نحن، في الحقيقة، أمام إشكالية يفرضها علينا منهج القراءة المقارنة، التي نعتبرها من أهم أنماط القراءة المفتوحة أو إحسان القراءة، التي تعطي عناصر ضبط منهجي وتنوّع تحليلي في آن واحد.