
نشر في صحيفة الأهرام بتاريخ 11 مايو/آيار 2013
أتحدث عن فتاوي الأمة مستدعيا هذا البحث الذي كتبته منذ سنوات بمناسبة مقالة للأستاذ فهمي هويدي يعلق فيها علي فتوي شاعت بصدد تهنئة المسيحيين بعيدهم, متحفظا علي الفتوي في محتواها وتوقيتها, ومشيرا الي مكانة فتاوي الأمة, حينما ترتبط بالأمة المصرية وجماعتها الوطنية وعناصر جماعيتها واستحضار حقائق الأمة والحفاظ علي كيانها, وقضايا هامشية تثار في إطار فتونة القضايا بلامسوغ ومن أقصر طريق.
فتاوي الأمة تميز بين فتاوي الأعيان والأفراد وفتاوي تخص الأمة, فتاوي الأمة تعني أن نتعرف علي مقتضيات ومتطلبات ومكنونات مفهوم الأمة والجماعة الوطنية, من حيث مصالحها وقضاياها والأدوار المنوطة بها والخطاب المتوجه إلي فئاتها, ووعي الأمة وتكوينه والمقاصد المتعلقة بها, والنظر المتكامل لقضاياها المتنوعة وتحدياتها الكلية بما يعبر عن ضرورات الحفاظ علي عناصر الأمة الجامعة وجماعتها الوطنية بما يحرك دافعيتها.
ليس من هدفنا البحث في محتوي هذه الفتاوي أو الأدلة التي استندت إليها, فهذا من عمل من يهتمون بالصياغة الشرعية للفتاوي, ومدي ملاءمة الدليل للقضايا المتعلقة بالفتوي, والذي هو من عمل القائمين بالاجتهاد من الفقهاء والعلماء. إنما الهدف أن ندرس الإفتاء باعتباره ظاهرة صارت تمارس مع تجدد الحادثات, ومع تعدد النوازل, فصارت الفتوي تستدعي من كل طريق لأن تدلي بدلوها في أعيان وأفراد وفتاوي أمة, مع ما يستأهله ذلك من مسار يجب أن يتبع في فتاوي الأمة; فيكون طلب الفتوي من فرد أو من جماعة أو مؤسسة, أو التعرض لها من غير طالب; بحيث تصير قضية رأي عام تحتاج من المفتي التصدر لها, وقصده الوصول إلي الجواب الكافي والشافي عنها, ويصير المستفتي ليس هو المقصود أيا كانت جهته, بل المقصود تحديد المصلحة الكلية للأمة, ويصير طلب الفتوي مناسبة لذلك.. وهذا الأمر يحتاج إلي مزيد من التأمل.
إلا أنه هذا المناخ قد أسيء استخدامه حينما زاد الأمر عن الحد في مبالغة مقيتة لا تدخل في مجال المنشود والمطلوب أو المشروع والمقبول والمعقول.ولو اعتبرنا أن قضايا الرأي العام هي في حكم الاستفتاء, وعلي المفتي ضمن أدواره أن يستشعر هذه القضايا وتأثيرها فيتعرض للإفتاء فيها من دون مستفت متعين, إلا أن صياغة فتاوي الأمة تستأهل الاجتهاد بما يكافئ مقام فتاوي الأمة وخطورتها.
إن فتاوي الحيرة يجب ألا تعالج بحالة من حيرة الفتوي, وفتاوي المحنة والفتنة يجب ألا تتحول إلي فتنة الفتوي; فتزيد حال الفتنة اشتعالا وحال الحيرة إرباكا.
وفتاوي الأمة تفرض علي الجميع الاهتمام بها, ومن هنا فإن الأمة تفزع إلي علمائها تلتمس لديهم جوابا كافيا شافيا, جامعا للأمة, مانعا من فرقتها..ومن هنا وجب علي العلماء أن يتنادوا بما يتناسب مع حالة الفزع إليهم. والتنادي يعني تأسيس مجامع فقهية للأمة..وإلا لماذا تجتمع المجامع في قضايا أقل إلحاحا من ذلك بكثير, لا تمس كيان الأمة, وتشكل فتنة يجب الخروج منها؟ ولماذا بدا لنا أن كثيرا من المفتين قد اعتزلوا الفتوي في قضايا الأمة وفتاواها؟ هل ذلك من باب تهميشها أم من باب إيثار السلامة؟!
وحينما يدخل حلبة الإفتاء المتجرئون عليها, ويدخل من يحسن ومن لا يحسن, وتتعالي المزايدة من العلماء علي بعضهم البعض, فإن الفتوي وميدانها يتهيأ إلي حروب من نوع آخر تفقد فيه الأمة عقلها وتماسكها.من القضايا المهمة في العملية الإفتائية ملاحظة المعالجة الجزئية للقضايا( كردود فعل إفتائية) ضمن عملية صناعة الرأي العام وتعبئته حيال أحداث بعينها.يترتب علي هذا الأمر أن المعالجة الجزئية تفضي إلي حالة انتقائية للأدلةإن كل ذلك سيحدد بالضرورة ما يمكن أن نعنيه بفقه الواقع, وما يتفرع ويتولد عنه من أنواع أخري من الفقه( فقه الأولويات),( فقه المجال),( فقه المآل). إذن نحن في حاجة لتعيين الحالة الإفتائية خروجا عن دوائر الاتهام, ودائرة العاطفة, ودائرة الأهواء, إلي أقصي درجات الترشيح( بالمعني الكيميائي) التي تحدد عناصر مهمة: ضرورات اعتبار الواقع وفهم عناصره وتفاصيله. وضرورات تقدير الواقع بماهو عليه من غير تهوين مخل أو غلو مغل, ومن غير إفراط أو تفريط. وكذلك ضرورات دراسة الواقع بكل توابعه: حالا ومجالا ومآلا: أي دراسة الواقع وما وقع والمتوقع. وضرورات تسكين الواقعة في الواقع, وما يتطلبه ذلك من عمليات منهجية.والبحث في التعارضات والمتناقضات والخيارات والأولويات.
كيف تؤثر هذه الرؤية علي المجال الإفتائي؟:
الحكم علي شيء فرع علي تصوره. وتشريح الحدث وترشيحه. وأجواء الأحداث والقضايا( البيئة والوسط). وذاكرة الحدث من عناصر مداخل تكييفه. وتسكين الحدث ومصالح الأمة( فقه الموازنات والتوازنات). بالاضافة الي فقه الواقعة في سياق الواقع الكلي الشامل وضرورات التعرف علي مفاصله والمؤثرات والمتغيرات فيه. الأحكام تستند إلي ثوابت الفعل ولا تتخطاها( أصول المرجعية). وتواجه الجماعة وهي أيضا تتمثل في ألا تختل صيغة التوازن الاجتماعي والسياسي والثقافي التي تحفظ للجماعة السياسية وحدتها وترابطها.
هل يمكننا إذن أن نؤكد كيف تكون الفتاوي( بنية ومنهجا) قادرة علي أن تؤدي ضمن مقامها ومكانتها, أن تشكل قاطرة للتعامل مع القضايا الاستراتيجية والحضارية والمستقبلية للأمة بفتاوي بصيرة تقود رأيا وتشكل أمة ضمن ثقافة كلية للحفاظ علي الجماعة الوطنية وتماسكها بما يحتاج لدراسات مستقلة تتناسب مع مقام الفتوي وخطورتها في الأمة, هذه الفتاوي هي القادرة علي الخروج من حال التفاتي المصنوع والمصطنع والفتاوي الملونة بادعاءات اعتبار الزمان والمكان وأنماط وأشكال وآليات التحيل, وفتاوي المتاهات في لفت الانتباه عن القضايا الأساسية والرؤي الكلية, وهي القادرة علي مخاطبة كل فئات الأمة وتحديد مناط وأصول فاعليتها وإرشادها.
فهناك بعض الفتاوي لا تزال تشكل مدخلا للعبث والتلهي بقضايا الأمة, من غير أن تملك الفتوي أداء يتلاءم مع قضايا الأمة وخطورتها, وفاعلية تستجيب لخطورة مقام الفتوي وأدوارها سنظل ندور في حلقة التفاتي المفرغة علي اصطناعها وهشاشة فتاوي تصدر من هنا أوهناك, صمود وسمو مقام الفتوي في ظل انهيارات كثيرة في المجال الثقافي والفكري وكثير من فاعلياتنا, في فعلها وفاعليتها في كيان الأمة, علي الجميع أن يستشعر مسئولية الفتوي وخطرها, وشأن فتاوي الأقباط يجب أن يوزن بميزان حساس يحفظ جامعية الأمة ويحمي نسيج شبكة علاقتها المجتمعية لجماعتها الوطنية.